مع بزوغ شمس يوم جديد فوق خيام النزوح المنتشرة غرب مدينة غزة، يتهيأ الطفل حمزة جحا (12 عاماً) لمهمته اليومية الشاقة، حاملاً كيساً قديماً على كتفه فيما يسير بجوار شقيقه الأصغر أحمد (9 أعوام). وبينما يمرّان بجانب الركام والأنقاض، ينهمكان في جمع ما تبقى من أخشاب وأوراق وقطع بلاستيك تُستخدم لإشعال فرن الطين الذي تنصبّه والدتهما قرب الخيمة. هناك، تخبز الأم أرغفة صغيرة تصبح قوت العائلة الوحيد بعد أن فقد والدهما عمله في أرضه الزراعية بحي الزيتون المدمّر.
يقول حمزة وهو يفتش بين الحجارة: «كل صباح أبحث أنا وأخي عن أي شيء تشعل به والدتنا فرن الطين لتصنع الخبز للنازحين مقابل مبالغ مالية بسيطة، فهذه المهنة أصبحت مصدر رزق عائلتنا». يبتسم أحمد بخجل مضيفاً: «حتى الورقة الصغيرة تصبح عندنا كنزاً». ومع كل كومة يجمعانها، يرتسم شعور بالفخر على وجهيهما، كأنهما يقدّمان انتصاراً صغيراً في معركة البقاء.[1]
من حمزة إلى بلال
وعلى بُعد أمتار من المكان، يتكرر المشهد بصورة مختلفة. عند بوابة الجامعة الإسلامية المدمّرة، ينادي الطفل بلال أمير (10 أعوام) بأعلى صوته: «حلب يا حبايب.. بالسميد يا حلب». أمامه طبق صغير من الحلوى التي صنعتها والدته داخل الخيمة. يجلس على كرسي بلاستيكي صغير متهالك، فيما تسمع أصوات الانفجارات من بعيد، لكنه يواصل مناداته لجذب المارة.
بلال هو الابن الأكبر بين خمسة أشقاء. أصيب والده بداية الحرب فأصبح طريح الفراش، فتولت الأم مسؤولية إعالة الأسرة من خلال صناعة الحلوى. يقول بلال بصوت خافت: «أبيع أصابع الحلب من الصباح حتى المساء. أحياناً أجمع 30 شيكلاً، أشتري بها الطحين والجبن لأخواتي». يوضح أن لحظة شراء علبة جبن صغيرة لأسرته تعني له سعادة تفوق تعبه طوال اليوم.[2]
كريم وأخته
في الجهة المقابلة تماماً، يرفع الطفل كريم اللداوي (12 عاماً) صوته مردداً: «حلوة وطيبة يا غريبة.. بالسمن والسكر». يجلس على حجر خرساني، وأمامه طبق مليء بقطع الغريبة. يروي أن والده المريض بالقلب والسكر لم يعد قادراً على العمل، فيما أصيب شقيقه الأكبر خلال الحرب. وهكذا، تحوّل كريم وشقيقه الصغير إلى بائعين في الشارع.
«أحياناً لا أعود إلى الخيمة قبل حلول الظلام. لو لم أبع كل القطع لا أستطيع شراء الطعام»، يقول كريم وهو يزيح العرق عن جبينه. ورغم التحاقه بخيمة تعليمية أقيمت للأطفال النازحين، إلا أن التزامه محدود: «أتأخر أحياناً بسبب البيع أو طوابير الماء».
تتدخل شقيقته زينة (١٥ عاما) التي تساعده في إعداد الحلوى، فتقول: «أشعر أن طفولتنا ضاعت. بدل اللعب والدراسة نصنع الحلوى ونبيعها. لكن ما باليد حيلة».
تتوقف لبرهة ثم تضيف: أشعر أننا كبرنا بسرعة، طفولتنا ضاعت في الحرب، فأنا لا أخرج للعب مع صديقاتي حتى أحلامي تغيرت، صرت أحلم فقط أن يبيع كريم كل القطع بسرعة ".[3]
الأمهات.. حكاية صامتة
في هذه المشاهد، تلعب الأمهات دوراً محورياً. إحداهن تصنع الخبز في فرن الطين، وأخرى تعد الحلوى لأطفالها، وثالثة تقف ساعات في طوابير المياه. تقول أم بلال: «أشعر بالوجع وأنا أرى ابني ينادي في الشارع بدل أن يكون في مدرسته، لكن إصابة شقيقه ومرض والده أجبرنا على ذلك. أصابع الحلب هذه أصبحت مصدر رزقنا الوحيد».
وتضيف أم بلال وهي تراقبه من بعيد: "كل مرة أسمع صوته ينادي في الشارع، ينقبض قلبي، وأحيانًا أختبئ خلف الخيمة وأبكي، لأنني كنت أحلم أن يكون بلال طفلًا مميزًا ومتفوقًا في مدرسته، لا أن يكون بائعًا متجولًا".
وتتنهد أم بلال مضيفة: "ليس أمامنا خيار آخر فإصابة والده جعلتنا بلا معيل، وباتت أكبر فرحتي عندما يعود بلال آخر النهار ومعه كيس طحين صغير أو عدة علب من الجبن، حينها أشعر بأنه هو الزوج والأخ والمعيل، رغم أنه ما يزال طفلًا". [4]
خبير تربوي يحذر
الدكتور درداح الشاعر، أستاذ التربية وعلم النفس في جامعة الأقصى، قال إن الحرب المستمرة لم تترك للأطفال خيارات أخرى غير العمل، فالكثير من الأسر فقدت معيلها أو نزحت من منازلها، ما جعل الطفل يتحول إلى «خباز صغير» أو «بائع متجول» في الشوارع.
ويضيف الشاعر في حديث خاص لموقع المرصد الفلسطيني للنزوح، «هذه ليست تجربة عابرة، بل واقع يفرض على الطفل أن يكون منتجًا وهو في عمر يحتاج فيه إلى الرعاية».
ويتابع، انتشار عمالة الأطفال بهذا الشكل يعكس انهيار المنظومة التعليمية والتربوية، إذ تحولت المدارس إلى مراكز إيواء، وأُجبر الطلاب على مقايضة حقهم في التعليم بلقمة العيش. «إنه نزيف مزدوج»، يوضح الشاعر، «فالطفل لا يخسر يومه فقط، بل يخسر مستقبله أيضاً».
ويحذّر من أن استمرار هذه الظاهرة سيُنتج جيلاً يعاني من مشكلات عميقة: «أطفال الحرب الذين يعملون الآن سيحملون معهم ندوب التجربة لسنوات طويلة، وقد يفتقدون الثقة بالمجتمع، وهذا يضع المجتمع بأسره أمام تحديات أكبر من مجرد إعادة إعمار الحجر».
ويضيف الشاعر أن الأطفال العاملين يعانون من إرهاق جسدي مستمر يجعلهم أكثر عرضة للأمراض والإصابات. «الطفل الذي يحمل كيس الحطب أو يقف لساعات تحت الشمس، يكتسب آلاماً لا تتناسب مع عمره، وغالباً ما يتحمل ضغوطاً نفسية تفوق طاقته».
ويتابع: «إلى جانب الإرهاق الجسدي، هناك أثر نفسي عميق؛ الأطفال يفقدون شعورهم بالأمان ويصبحون أكثر انطواءً أو عدوانية. الحرب أجبرت الأطفال على التكيف مع بيئة قاسية قبل أن يكتمل نموهم، وهذا يعكس تحديات طويلة الأمد على صعيد المجتمع بأسره».
ويختم قائلاً: «الحرب سرقت الطفولة من هؤلاء الصغار، وإذا لم تُوفّر لهم برامج دعم نفسي وتعليمي عاجلة بعد وقف العدوان، فسوف نجد أنفسنا أمام جيل محطم لا يملك أدوات النهوض بالمجتمع».[5]
أرقام صادمة
وقالت الأمم المتحدة، إن الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة سيحرمون من التعليم للعام الثالث على التوالي، بسبب الحرب على غزة.
وأوضح متحدث الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحفي الأربعاء28 أغسطس/ آب، أن العام الدراسي الجديد يقترب، و"أطفال غزة سيفقدون فرصة التعليم للعام الثالث على التوالي، التعليم حق أساسي ولا يجوز حرمان أي طفل منه".
كما دعا دوجاريك إلى "حماية حق الأطفال في غزة في الحصول على التعليم".
وأكّد ضرورة إعادة فتح المدارس وضمان تمكين الأطفال الفلسطينيين من ممارسة حقهم في التعليم، محذرا من أن هذه الأزمة "تهدد مستقبل جيل كامل في غزة".[6]
ووفق بيانات وزارة التربية والتعليم، فقد حُرم أكثر من 630 ألف طالب وطالبة في غزة من حقهم في التعليم منذ السابع من أكتوبر 2023، فيما أُضيف إليهم 58 ألف طفل كان يفترض أن يلتحقوا بالصف الأول هذا العام.
وتشير التقديرات إلى أن 25 ألف طفل بين شهيد وجريح، منهم ما يزيد على عشرة آلاف من طلبة المدارس. كما تحوّل نحو 200 مدرسة تديرها الأونروا إلى مراكز إيواء، وتعرض 70% منها للقصف أو التدمير.
ووفقا لتقرير نشرته وكالة "الأونروا"، في 9 من مايو/أيار 2025، لتقييم احتمالية تضرر المباني المدرسية في قطاع غزة من خلال تحليل قربها من المواقع المتضررة وفقا لبيانات مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة، فإن "95.4 في المئة من المدارس في قطاع غزة تعرضت لمستوى ما من الأضرار في مبانيها".
وأضاف تقرير "الأونروا" أن "ما يقرب من 88.8 في المئة من المباني المدرسية في غزة (501 من أصل 564) بحاجة إما إلى إعادة بناء كاملة أو أعمال إعادة تأهيل كبيرة لكي تعود للعمل مرة أخرى".
وخلص التقييم ذاته إلى أن 406 مبان مدرسية (أو 72 في المئة من إجمالي المباني المدرسية في غزة) تعرضت "لأضرار مباشرة" منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وعلى الرغم من صعوبة الوضع التعليمي للأطفال في قطاع غزة، يشهد القطاع بعض المبادرات المحلية في محاولة لتوفير بعض التعليم، وإن كانت مبادرات محدودة الإمكانيات.[7]
معركة من أجل البقاء
ومع غروب الشمس، يعود حمزة وأحمد إلى خيمتهما مثقلين بأكياس ممتلئة بالأخشاب والنايلون. يستقبلهما والدتهما بابتسامة باهتة، تشعل بها فرن الطين. وبينما يتصاعد دخان الخبز، يضع حمزة كومة الأوراق أمام أمه كأنه يضع كنزاً ثميناً، ويهمس: «اليوم جمعنا ما يكفي يا أمي».
هكذا، وسط ركام الحرب وحرمان الطفولة، يظل الأطفال في غزة يخوضون معركة يومية من أجل البقاء، حيث تتحول قطعة خشب أو علبة جبن صغيرة إلى رمز حياة كاملة.
صحفي من مدينة غزة أعمل في مجال الصحافة والإعلام منذ سنوات، وكتبت في عدد من الصحف والمواقع العربية والفلسطينية.