على باب خيمة صغيرة متهالكة، ضمن مخيم يأوي المئات من عائلات أنهكها عبء النزوح قسرًا من كافة مناطق قطاع غزة، رأيته يحتضن بيديه الصغيرتين حزمة من الأخشاب، في محاولة منه لإشعالها بعناء، متجاهلًا بأسى جروحه البارزة في كفيه، اقتربتُ منه لأسأله عما إذا كان هناك من يحمل عنه مشقة هذا العمل، وبتنهيدة كانت كفيلة بإخماد النار التي أمامه أجابني بأنه (وحيداً) هنا، في دير البلح، تلك المدينة التي ادّعى الجيش الإسرائيلي أنها (آمنة)، يروي لنا الطفل أيمن الذي أتى من مدينة رفح تحت تهديد إسرائيلي بالقتل أو النزوح، أيمن يبلغ من العمر عشر أعوام، لم يحسب منها عامان سُرقوا منه في غياهب الحرب ما بعد السابع من أكتوبر.
وبإجابة أخرى تفوق عمره بمراحل، عرفتُ منه أنه المُعيل الوحيد لأسرته هنا، وذلك بعد مقتل والده وأخيه الأكبر خلال عملية نزوحهم من مدينة رفح ليستقر في هذا المخيم العشوائي في منطقة معسكر دير البلح، في خيمة تملؤها شظايا صواريخ الاحتلال.
بيده الخشنة التي تتناقض جروحها مع نعومة طفولته يمسح حبّات العرق عن جبينه ويقول لي: " لو أنا ما عملت هيك مين هياخد باله منا؟ أمي وأختي في رقبتي، ما الهم حد."
أحلام ضائعة
الأشهر الطويلة من الصراع المتصاعد في غزة حوّلت قطاع غزة إلى أخطر مكان في العالم ممكن أن يعيش فيه الأطفال، حيث تشير الاحصائيات إلى أن حوالي (1.7) مليون شخص هجّروا داخليا بسبب التهديدات الإسرائيلية المستمرة، ونصف هذا العدد من الأطفال، تلك التهديدات التي دفعت الأهالي إلى النزوح قسرًا من بيوتهم إلى مناطق صغيرة ومكتظة دون ماءٍ أو طعام أو بيئة سوية لأطفالهم في محاولة منهم للبحث عن الأمان المفقود، ليجدوا أن الأمر انتهى بأطفالهم في خيام وملاجئ يتوسطها أنهاراً من النفايات في بعض المناطق، دون حماية أو تغذية صحية، ونتيجة لذلك، يعاني آلاف الأطفال في قطاع غزة من سوء التغذية والمرض.
ومن بين فصول المأساة الإنسانية في غزة، يروي الأطفال قصصًا صعبة، فهذه هي "حياة" تلك الطفلة التي لم يتجاوز عمرها الثلاثة عشر عاماً، تبكي وحيدة على باب خيمة كُتب عليها بالخط العريض " قص الشعر ب 15 شيكل"، تقول أنها قضت أكثر من ثلاثة أيام على باب هذه الخيمة تتمعّن الجملة، إلى أن جمعت الثمن لكي تأتي وتقصص شعرها الذي يصل طوله إلى أسفل ظهرها واصفة لونه بأنه يشبه عند تشابكه مع الشمس قبة المسجد الأقصى.
وتروي حياة تفاصيل معاناتها أكثر لتوضّح أنها المُعيلة الوحيدة لوالدتها التي فقدت كلتا يديها في هذه الحرب، وبسبب ذلك لم تستطع والدتها قص شعرها ولم تحتمل حياة قصه بنفسها، وجاء هذا القرار بعد أن تسببت البيئة الملوثة للمخيم الذي تقطنه مجبرة في انتشار العديد من حشرات الرأس التي لم تتمكن من السيطرة عليها ولا معالجتها بسبب انعدام أي مصدر من مصادر الدخل المعيشي لهم، فلجأت للتخلي عن أجمل ما تملكه الأنثى حتى ولو كانت طفلة، تودّعني حياة بتأكيد حزين قبل دخولها إلى الخيمة: "يعني الاحتلال مش بس قتل أبوي وأخواتي، هو كمان سرق بيتي وشعري وجمالي، أنا بطلت حلوة خلص."، وغادرتني حياة يائسة ناقمة على اسمها الذي لم يكن لها منه أي نصيب في غزة.
الناجي الوحيد
خلال تواجدي في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وفي قسم الطوارئ الذي يصنف كبوابة جحيم تسمع منه صرخات الآلاف من الأطفال المكلومين، قابلني الوجه الأصعب للحرب على غزة، حيث سمعت آهات الأطفال الذين بقوا وحدهم على قيد الحياة بعد فقدانهم لجميع أفراد عائلاتهم، رأيتُ طبيبات الولادة اللاتي يجرين عمليات إنقاذ طارئة لأمهات في شهور حملهن الأخيرة تم استهدافهم من طائرات الاحتلال عمدًا، ففارقوا الحياة وأجنّتهم لا زالت بداخلهن وتنبض فيهم الروح.
"أمل"، تلك الطفلة التي لم يتجاوز عمرها تسع أعوام، بقيت وحدها تصارع مشقّات اليُتم، بعد استهداف عائلتها في حي الشجاعية في مدينة غزة ومسحها بالكامل من السجل المدني، تصرخ وحدها في حضن المُسعف الذي أتى بها إلى المشفى محاولًا إنقاذها دون أن يسمع أنينها أم ولا أب.
خارج المشفى، وعلى البوابة الرئيسية رأيت طفلًا على كرسي متحرّك، يتحسس ما تبقى من جسده الذي بُتِرت منه ساقيه، يحمل قلبه بين يديه الجريحة، ودموعه تذرف بحرارة بصحبة رجال وشيوخ وشبان كثر يتوسّط عجوزين في صلاة الجنازة على سبعة عشر كفنًا من عائلة لم ينجو من بينهم أحد سواه، أراقب المشهد الذي ينتهي بصرخة مدويّة منه ثم فقدانه للوعي، بعد محاولات يستيقظ متسائلًا: " ليش ربنا ما أخدني مع أهلي وخلّاني لحالي؟"، ليكن واحدًا من سبعة عشر ألف يتيم حرمتهم حرب الإبادة من آبائهم وأمهاتهم.
هكذا يبدو المشهد في قطاع غزة على الدوام، أطفال تائهون ضائعون مشرّدون بلا أهل أو مأوى، يعانون من حروق بالغة وتشوهات وإصابات أدت إلى شللهم الكامل وعجزهم عن الحركة كليَا، إضافة إلى الصدمات الدماغية والنفسية التي تؤثر على سلوكهم، كما فقد المئات من الأطفال بصرهم كليًا أو جزئيًا، حيث أدت الحرب إلى بتر أطراف (4) آلاف طفل، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة الفلسطينية في تقاريرها.
طفولة عاجزة
للعجز والأطفال في غزة عناق طويل، ما عاد الموت يخيفهم، ولا القنابل الحارقة ترهبهم، ما عادت تشغلهم ألعابهم ولا أحلامهم، لأن المشقة في الأعمال اليومية أصبحت لعبتهم الوحيدة التي يقضوا في إنجازها أغلب أوقاتهم.
على باب أحد التكايا المخصصة لإطعام النازحين، ومن بين آلاف الناس المتكدسين فوق بعضهم البعض للحصول على كمية قليلة من الطعام، تعود تولين (10) أعوام بعلبة فارغة وملابس متسخة وفاقدة حذائها، تبكي طفولتها بحرقة بسبب عدم تمكنها من الحصول على الطعام بعد تدافع الناس بشراسة للتسابق على الطعام، وتقول تولين "لم نعد أطفالا، الفرق بيننا وبين العجائز شيب الشعر فقط".
وفي المقابل، يجلس أمير (8 أعوام) بدموع عالقة في طرف عينيه وحيدا على أنقاض منزل مدمر بعدما عجز أن يجلب لأمه وأخوته ما يشبعهم، وحين سألته عن والده أجاب "أبي معتقل عند اليهود".
أما حلا (14عاما) فتقطع سيري متسائلة عن حقيقة ما قرأت عنه في المناهج الدراسية، تتساءل عن الحقوق التي تعلمتها من لعب وأمان وتعليم، تغادرني حلا وفي يدها قطع من الحلوى ذاهبة لبيعها وهي تتمتم" حرام اللي بيصير، ما بدها تخلص الحرب، والله عذبونا كتير اليهود".
اخفاء قسري
على حاجز نتساريم الفاصل بين شمال وادي غزة وجنوبه، حيث يعتبر أحد أكثر أماكن تمركز جيش الاحتلال بريًا في القطاع، على هذا الحاجز نرصد الآلاف من قصص الاخفاء القسري التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين.
من جانبها، تروي الشابة (ت. د) قصتها وشقيقها الطفل مازن (9 أعوام)، حينما كانا ينتظران معا شاحنات المساعدات الإنسانية في منطقة دوار النابلسي في مدينة غزة حين باغتهم الاحتلال واعتقل عددا كبيرا من الأشخاص هناك، كان منهم مازن الذي أفرج عنه الاحتلال بعد اعتقال دام 25 يوما في منطقة دير البلح في حالة صحية صعبة إثر ما تعرض له من تعذيب في معتقلات الاحتلال، إضافة إلى أن الافراج عنه كان مشروط بإبعاد الطفل مازن عن شمال غزة ثلاثة أشهر.
وفي السياق، أشار الأورومتوسطي إلى أنه لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد المعتقلين الفلسطينيين من غزة حتى الآن، نظرًا لحوادث الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي داخل القطاع بحق كافة المدنيين ولم يستثني منهم الأطفال، إضافة إلى صعوبة تلقي البلاغات في قطاع غزة بسبب تشتت العائلات وانقطاع الاتصالات والإنترنت شبه الدائم، غير أن تقديرات أولية تشير إلى تسجيل أكثر من (3) آلاف حالة اعتقال، بينهم ما لا يقل عن (200) امرأة وطفل، ولا توجد أي معلومات رسمية عن مواقع احتجازهم أو الظروف والتهم الموجهة اليهم.
غياب الحماية الدولية
ومن جانبه، أشار منسق التحقيقات والشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بكر التركماني ل "المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي" إلى أن آلاف الأطفال النازحون في قطاع غزة يصنفون (أطفال نازحون داخليًا) وفقًا لتعريف المبادئ التوجيهية بشأن النزوح الداخلي الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1998، حيث لم يعبروا حدودًا دولية، وبالنظر إلى أن غالبية هذا النزوح القسري جاء نتيجة حرب الإبادة المستمرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، والتي لم تراعِ مبدأ التمييز ولا مبدأ التناسب.
وأكّد في حديثه على أن هذا النزوح يُعدّ خرقًا واضحًا للحق في الحماية من التشريد والتهجير القسري بموجب المادة (22) من اتفاقية حقوق الطفل، والتي بدورها تضمن حماية الأطفال في أوقات النزاع، كما ويُعدّ انتهاكًا للمادة (38) التي تلزم الدول باتخاذ جميع التدابير الممكنة لضمان حماية ورعاية الأطفال المتضررين من النزاعات المسلحة، كم أن الانتهاكات المرتبطة بالنزوح ترقى أيضًا إلى خرق للقانون الدولي الإنساني، لا سيما المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تحظر النقل القسري للسكان المدنيين، باستثناء الحالات الضرورية لأمن السكان أو لأسباب عسكرية قاهرة، وهو ما لا يتوفر في الحالات الغالبة على النزوح في غزة.
وفي السياق ذاته، أوضح بكر أن الانتهاكات في غزة هي نمطية ومنهجية، وتستهدف الأطفال باعتبارهم الحلقة الأضعف، ويجري ارتكابها بشكل جماعي وممنهج، ويظهر ذلك بوضوح في استهداف التجمعات السكنية والمدارس والمراكز الصحية، دون احترام للمعايير الدولية، كما أن هناك العديد من الحقوق التي يتم انتهاكها بحق الأطفال في سياق النزوح الحالي منذ حرب الإبادة الجماعية التي تستمر فيها إسرائيل ضد المدنيين في غزة.
وفي سياق متصل، بيّن تركماني أن استجابة السلطات المحلية والمنظمات الدولية لحماية الأطفال النازحين في غزة وضمان حقوقهم الأساسية حتى الآن هي استجابة جزئية ومحدودة لأسباب متعددة، فالسلطات المحلية (في غزة) تعمل بموارد شحيحة وبنية تحتية منهارة، في ظل الحصار الكامل والاستهداف المتعمد للموارد والكوادر البشرية ونقص التمويل، مما يجعل قدرتها على حماية الأطفال محدودة، وضعيفة جدً، كما أن الأولويات الأمنية والإغاثية خلال حرب الإبادة في غزة تطغى على برامج الحماية الشاملة.
احصائيات وتقارير
وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد الشهداء الأطفال إثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7/10/2023 ولغاية 4/4/2025 الى حوالي 18000 طفل شهيد منهم 274 رضيعاً ولدوا واستشهدوا تحت القصف، و876 طفلاً دون عام واحد، و17 طفلاً ماتوا جراء البرد في خيام النازحين، و52 طفلاً قضوا بسبب التجويع وسوء التغذية الممنهج.
كما أصيب 113,274 جريحاً، 69% منهم أطفال ونساء، بينما لا يزال أكثر من 11,200 مواطناً مفقوداً، 70% منهم من الأطفال والنساء. أما في الضفة الغربية، فقد استشهد 188 طفلاً، و660 جريحاً من الأطفال منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
ولعل هذه الاحصائيات تشير الى حجم الإبادة والكارثة الحاصلة بحق الأطفال في قطاع غزة، وهذه الأرقام المروعة دفعت وكالة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" لوصف ما يحدث بالصدمة الحقيقية، فقد بيّنت تقارير سابقة لليونيسف أن قتل وتشويه الأطفال واختطافهم، والهجمات على المستشفيات والمدارس، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، تشكل انتهاكات جسيمة لحقوق الأطفال، إضافة إلى أن الوضع في قطاع غزة يشكل وصمة عار متزايدة على ضميرنا الجماعي، فإن معدل الوفيات والإصابات بين الأطفال صادمة."
حيث أشارت التقديرات أن جميع هذه الانتهاكات تؤثر بشكل كارثي على مستقبل الأطفال على المدى البعيد، كالاضطرابات النفسية المزمنة، خصوصًا لدى الأطفال الذين شهدوا القتل أو فقدوا أحد الوالدين، إضافة إلى ضعف النمو الاجتماعي والمعرفي بسبب فقدان البيئة التعليمية الآمنة، وشعورهم الدائم بالتهديد، مما قد يؤدي لاحقًا إلى مشاكل في الاندماج المجتمعي أو الميل للعنف، وتحطم الروابط الأسرية والمجتمعية نتيجة النزوح المتكرر، مما يضعف شبكات الحماية التقليدية.
وبحسب تقديرات الأونروا فإنّ أطفال غزة يقضون ما بين 6 إلى 8 ساعات يوميًا في جلب الماء والغذاء، وغالباً ما يحملون أوزانًا ثقيلة، ويمشون لمسافات طويلة، فيما تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن أكثر من 17 ألف طفل في غزة أصبحوا يتامى.
وقبل بدء هذه الحرب، كانت يونيسيف تعتبر أن 500 ألف طفل في غزة بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية ودعم نفسي، واليوم، تشير التقديرات إلى أن جميع الأطفال في قطاع غزة تقريبا بحاجة إلى هذا الدعم، أي أكثر من مليون طفل، وذلك بعد أن توقّف روتينهم اليومي، وحرمانهم من الأنشطة التعليمية، كما أنّ أغلبهم لا يحصلون إلا على القليل من كافة الحقوق، وقد لا يحصلون على طعام ولا مياه شرب ولا دواء ولا مرافق صحية.
ومن الجدير ذكره أن هذه الانتهاكات كلها ليست جديدة على الاحتلال الإسرائيلي، فاستهدافُ الأطفال هو جزء من فكرٍ يرتكب جرائم حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، منذ النكبة في عام 1948، وهذا الفكر لا زال قائمًا إلى اليوم، وهذا ما يحدث حتى الآن خلال حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، حيث يواصل جنود الاحتلال قتل الأطفال والنساء والشيوخ منذ 600 يوم وأكثر.
صحفية فلسطينية مستقلة، حاصلة على بكالوريوس صحافة واعلام من جامعة الأقصى بغزة،تعمل في مجال الصحافة التحريرية مع العديد من الصحف والمنصات المحلية والعربية،وتعمل باحثة ميدانية بالعديد من المؤسسات المحلية