عربيعربي
المفقودين والمختفين قسريا – ماذا يجب أن تفعل السلطة الفلسطينية!؟

المفقودين والمختفين قسريا – ماذا يجب أن تفعل السلطة الفلسطينية!؟

المقدمة: 

خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، نفّذت إسرائيل واحدة من أشرس الحملات العسكرية في تاريخ النزاع، مستخدمة قوة نارية مفرطة ضد المدنيين. تعرض السكان لانتهاكات شديدة تمثلت في القصف العشوائي والهجمات المتواصلة على البنية التحتية، مما أسفر عن آلاف الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى زيادة غير مسبوقة في أعداد المفقودين والمختفين قسرًا. ورافق ذلك انهيار في منظومات الإنقاذ وصعوبة توثيق الحالات بسبب الفوضى الأمنية والميدانية. إن ظاهرة الاختفاء القسري تُعدّ تحديًا قانونيًا وإنسانيًا بالغ الأثر، نظراً لما تسببه من أضرار نفسية واجتماعية على الضحايا وأسرهم. هذه الظاهرة تُعتبر جريمة وفقًا للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، مما يتطلب استجابة شاملة من السلطة الفلسطينية عبر تشريعات وسياسات فعّالة لحماية حقوق الضحايا ومحاسبة المسؤولين. 

تهدف هذه الورقة إلى تحليل الوضع القانوني للمفقودين والمختفين قسرًا أثناء الحرب، وتقديم توصيات عملية للسلطة الفلسطينية تشمل إصدار تشريعات متخصصة، تشكيل لجنة وطنية، إنشاء قاعدة بيانات مركزية، التعاون مع الجهات الدولية، وتوفير الدعم الكامل لأسر الضحايا.

السياق التحليلي لقضية المفقودين والمختفين قسرا خلال حرب أكتوبر 2023:

منذ بدء الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة في أكتوبر2023، دخل القطاع في مرحلة غير مسبوقة من الكارثة الإنسانية، حيث تزايدت أعداد الشهداء والمفقودين بصورة صادمة. فقد بلغ عدد الشهداء حتى تاريخه ٥٢,٢٦٩ شهيدًا، من بينهم 12,365 امرأة و17,954 طفلًا و3,535 مسنًا تقريباً، بالإضافة إلى 206 من الصحفيين، و1394 من أفراد الطواقم الطبية، و203 من موظفي الأونروا، و105 من عناصر الدفاع المدني، كما سُجل فقدان القطاع ما يقارب 800 من الكوادر التعليمية.[1]

بالتزامن، تفاقمت أزمة المفقودين والمختفين قسرًا بصورة غير مسبوقة، إذ أشار الجهاز المركزي للإحصاء إلى وجود أكثر من 11,200 مفقود، بينهم 4,700 طفل وامرأة، في ظل انعدام المعلومات المؤكدة حول مصيرهم[2] في حين تشير تقارير أخرى، منها "أوتشا" ومنظمة "أنقذوا الطفولة"، إلى أن العدد قد يصل إلى 21,000، معظمهم من الأطفال، مع تباين في الأرقام بين الجهات الحقوقية والرسمية[3].في المقابل، قدّر المركز الفلسطيني للمفقودين والمختفين قسرًا العدد بنحو 8,500 شخص.[4]

وتُوثّق منظمات الأسرى احتجاز الاحتلال لأكثر من 4,500 مواطن من غزة دون تفاصيل عن أماكن أوضاعهم.[5] فبينما قدّر مركز الدراسات السياسية والتنموية أن ما بين 2,000 إلى 3,000 منهم محتجزون قسرًا في سجون الاحتلال وسط تعتيم كامل.[6]

مسارات رئيسية لحالات الفقدان والاختفاء القسري:

تشير المعطيات إلى وجود ثلاث مسارات رئيسية لحالات الاختفاء خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة[7]:

  1. الاحتجاز القسري لدى سلطات الاحتلال

مئات المدنيين يُعتقد أنهم محتجزون لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي في ظروف غير معروفة، وسط تسجيل ممارسات ممنهجة للإخفاء القسري، مع رفض الكشف عن أماكن احتجازهم أو تقديم معلومات لعائلاتهم. حيث نفذت القوات الإسرائيلية حملات اعتقال واسعة استهدفت مدنيين، لا سيما من الرجال والفتيان، بذريعة الاشتباه بانتمائهم للمقاومة، دون تقديم أي أوامر قضائية أو الإفصاح عن أماكن احتجازهم. وقعت هذه الاعتقالات خلال محاولات النزوح أو في مناطق المواجهات، حيث تم تجريد المعتقلين من ملابسهم واحتجازهم في ظروف قاسية وغير إنسانية، إما في العراء أو في مواقع غير معلنة.

  1. المفقودين تحت الأنقاض

آلاف الاشخاص يُرجح أنهم لا يزالون تحت أنقاض المباني التي دُمّرت فوق رؤوس ساكنيها نتيجة لسياسة "تدمير الأبنية على رؤوس ساكنيها" التي استخدمتها إسرائيل. تتوقع التقديرات أن أكثر من 10 آلاف شخص قد دفنوا تحت الركام ولم يُسجلوا كـ "شهداء" بسبب صعوبة الوصول إليهم. 

  1. الاختفاء أثناء النزوح القسري

شهدت محاولات النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه اختفاء العديد من المدنيين، نتيجة الفوضى وانعدام الممرات الآمنة. فبعد أن أصدرت قوات الاحتلال أوامر متكررة بإخلاء مناطق واسعة دون إشعار مسبق، اضطر مئات الآلاف من المدنيين إلى النزوح سيرًا على الأقدام في ظل أوضاع إنسانية بالغة القسوة، وسط قصف متواصل، مما عرّض النازحين لاستهداف مباشر، سواء عبر القنص أو القصف أثناء تنقلهم. في خضم هذا المشهد الفوضوي، تفككت آلاف العائلات نتيجة الانقطاع الكامل في شبكات الاتصال وغياب أي ضمانات للحماية. حتى 19 سبتمبر 2024 تشير بيانات الأمم المتحدة إلى وجود 55 أمر إخلاء سارٍ في قطاع غزة، تغطي 77% من مساحته (حوالي 281 كم²)[8]. وقد ساهمت هذه الأوامر القسرية في تسجيل آلاف حالات الاختفاء، إذ انقطعت آثار الكثير من الأشخاص أثناء التنقل، دون أن يُعرف مصيرهم حتى اليوم.

الانتهاكات الممنهجة المرتبطة بسياسة الإخفاء القسري

تُعدّ إسرائيل من أبرز الدول التي تمارس الإخفاء القسري كسياسة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، فمنذ نكبة عام 1948، استخدمت إسرائيل الإخفاء القسري كأداة لإسكات الأصوات، وتفكيك الروابط المجتمعية، وفرض حالة من الترويع العام. هذا النمط لم يكن مؤقتًا أو استثنائيًا، بل جزء من بنية النظام الاستعماري-العسكري الذي لا يرى في الفلسطيني "شخصًا يتمتع بحقوق"، بل "عنصرًا قابلًا للإزالة. وخلال العدوان الأخير، تحول قطاع غزة إلى مختبر علني لممارسة هذه السياسة على نطاق واسع. آلاف الحالات سجلت لمفقودين لا يُعرف مصيرهم حتى اللحظة، في ظل غياب منظومة عدالة فعالة، وتدمير البنية المدنية للبحث والإنقاذ.

 تتجلى هذه السياسة في عدد من الانتهاكات الميدانية[9]:

1. حملات الاعتقال الجماعي

اتبعت قوات الاحتلال سياسة الاعتقال الجماعي كوسيلة للسيطرة الميدانية، لاسيما بعد اقتحامها المناطق السكنية في مختلف أنحاء قطاع غزة. وقد أُجبر المدنيون على الخروج القسري من منازلهم باتجاه نقاط احتجاز وتحقيق ميداني أقيمت داخل مناطق الاجتياح، حيث جرى فرز المعتقلين إلى فئات وفقًا لمعايير غامضة. أُطلق سراح عدد محدود منهم لاحقًا، بينما بقي مصير المئات مجهولًا حتى اللحظة، وسط شهادات مروعة للمفرج عنهم توثق عمليات إعدام ميداني وتعذيب ممنهج خلال فترات الاحتجاز، إلى جانب استخدام أساليب مهينة ولا إنسانية في التعامل مع المعتقلين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.

2. الحواجز العسكرية والممرات الأمنية

منذ بداية الحرب، أقيمت حواجز عسكرية عند ما سُمِّي بـ “الممرات الآمنة"، والتي رُوّج لها كمنافذ لخروج المدنيين نحو مناطق أقل خطرًا. إلا أن الواقع الميداني كشف عن استخدام هذه الحواجز كأدوات قمع وفلترة أمنية، خاصة على "محور نيتساريم" الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه. كما نُصبت حواجز مشابهة على مداخل ومخارج مدن ومخيمات مثل جباليا وخان يونس، حيث سُجلت حالات اختفاء خلال عبور المدنيين، مع شهادات عن إطلاق نار واعتقالات وتصفيات ميدانية، ما حول هذه الممرات إلى مصائد دامية.

3. العمليات العسكرية المركزة

شكّلت العمليات العسكرية المفاجئة التي استهدفت مرافق مدنية حيوية، خصوصًا مراكز إيواء النازحين والمستشفيات، نقطة مفصلية في ملف الاختفاء القسري والانتهاكات الجسيمة. وقد برزت بشكل خاص عمليتا اقتحام مستشفى ناصر في فبراير 2024 ومجمع الشفاء الطبي في مارس 2024، حيث وقعت مداهمات واعتقالات شملت نازحين وطاقمًا طبيًا. ووثقت عمليات دفن جماعي واختطاف جثامين، ما عقد مصير المفقودين. وتم العثور لاحقًا على بعض الجثامين في حالة تحلل شديد أو تفحم، ما حال دون التعرف على هوياتها.

4. المقابر الجماعية

كشفت الوقائع الميدانية عن لجوء السكان إلى دفن الشهداء في مقابر جماعية بسبب تعذر التعرف على الجثث أو غياب الإمكانيات الطبية والقانونية لإتمام عمليات التوثيق. وفي حالات أخرى، تولّت قوات الاحتلال دفن الشهداء في حفر كبيرة خلال العمليات العسكرية، لا سيما في مناطق الاجتياح الواسعة مثل شمال غزة وخان يونس.

ويُعد هذا النمط من الدفن مؤشرًا خطيرًا على وجود انتهاكات قد تصل إلى مستوى جرائم الإبادة أو الإخفاء بعد الوفاة، في ظل غياب أي رقابة دولية أو توثيق لأسماء الضحايا.

5. اختطاف الجثامين

مارست قوات الاحتلال سياسة ممنهجة في احتجاز جثامين الشهداء خلال عملياتها العسكرية، حيث جرى نقل جثث الضحايا من أماكن استشهادهم إلى وجهات مجهولة دون إخطار ذويهم، وهو ما أدى إلى إدراج العديد منهم ضمن قوائم المفقودين. ويُعد احتجاز الجثامين انتهاكًا صارخًا لحقوق الضحايا وذويهم، وللقانون الدولي الإنساني، الذي يكفل حق العائلات في معرفة مصير أبنائها، وحق الموتى في الدفن وفق الطقوس الدينية وبكرامة.

 قانون "المقاتل غير الشرعي" وتداعياته خلال حرب الإبادة في قطاع غزة

أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عام 2002 على سنّ قانون "المقاتل غير الشرعي"، الذي يجيز احتجاز الأفراد المشتبه في مشاركتهم في "أعمال عدائية" ضد دولة الاحتلال، دون توجيه تهم رسمية أو عرضهم على محاكمة عادلة، بما يتعارض مع المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان.  يمنح هذا القانون سلطات الاحتلال صلاحية احتجاز الأفراد دون تقديم أدلة مادية على التهم الموجهة إليهم، ويحرم المعتقلين من حقوق جوهرية مثل الحق في الاستعانة بمحامٍ والحق في المراجعة القضائية المستقلة. وقد استُخدم هذا القانون على نحو موسّع بعد حصار غزة عام 2008.[10]

وتصاعدت وتيرة الانتهاكات خلال حرب أكتوبر 2023 عقب تعديل صلاحيات الاعتقال لتشمل رتبًا عسكرية أدنى. وبموجب قرار صادر عن وزير الأمن، صُنّف جميع معتقلي غزة كمقاتلين غير شرعيين، ونُقلوا إلى معسكر سدي تيمان العسكري، حيث يُحتجز آلاف الفلسطينيين في ظروف قاسية وغير إنسانية، مع حرمانهم من حقوقهم الأساسية. وتشير تقارير حقوقية إلى وجود أكثر من 4500 معتقل منذ بداية الحرب، من بينهم 1584 أُدرجوا ضمن هذا التصنيف[11] وسط غياب معلومات دقيقة عن أعداد المعتقلين أو مصير من اختفوا قسرًا، في ظل شهادات عن تعذيب وتصفية ودفن في "مقابر الأرقام"

ووفقا لإحصائيات مؤسسة الضمير، بلغ عدد الاعتقالات منذ السابع من أكتوبر 2023 حوالي 16,500 حالة اعتقال، من بين هؤلاء هناك حوالي 10,000 أسير منهم 3498معتقلا إداريا، و400 طفل، 27 أسيرة. يذكر أن هذه الأرقام تشمل جميع المعتقلين، وليس فقط اولئك الذين تم اخفاؤهم قسريا[12], بينما بلغ عدد المعتقلين حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ١٨٧٠٠ معتقل. 

الوضع القانوني للمفقودين والمختفين قسرا بموجب القانون الدولي: 

في ضوء ما سبق من عرض لمسارات الفقدان والاختفاء القسري والانتهاكات المرتبطة بها خلال حرب أكتوبر 2023 في قطاع غزة، تبرز أهمية تحليل الإطار القانوني الدولي الذي يُنظم هذه الحالات ويُحمّل الأطراف المتنازعة التزامات محددة تجاه المدنيين والمفقودين وذويهم.

 تعد اتفاقيات جنيف (1949) والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها حجر الأساس الذي يرتكز عليه المجتمع الدولي في ضمان حماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة. تنص اتفاقية جنيف الرابعة على التزامات الأطراف المتنازعة في النزاع بشأن حماية الأشخاص المفقودين أو المعتقلين، وتحدد المادة 17 من الاتفاقية ضرورة إبلاغ أسر المعتقلين والمفقودين بمكانهم في أقرب وقت ممكن.[13] كما يعزز البروتوكول الإضافي الأول (1977) حق المدنيين في معرفة مصير المفقودين، ويحث الأطراف المتنازعة على اتخاذ تدابير ملموسة للكشف عن مصيرهم، لضمان حماية أسرهم من القلق المستمر والعذاب النفسي، وهذا يشمل توفير آلية واضحة للإبلاغ عن حالات المفقودين وتنسيق الجهود مع المنظمات الإنسانية الدولية المعنية[14].

ووفقًا للقانون الدولي الإنساني، يُعرَّف الشخص المفقود بأنه كل من انقطعت أخباره في سياق النزاعات المسلحة أو الكوارث الطبيعية أو أوضاع العنف الأخرى، بحيث تغيب المعلومات المؤكدة لدى أقاربه أو السلطات المختصة حول مصيره أو مكان وجوده[15]

على الرغم من أن هذه الحالات قد تحدث بسبب الظروف القهرية للنزاع، فإن ذلك لا يعفي الأطراف المتورطة في النزاع من التزاماتها الدولية بالكشف عن مصير هؤلاء الأفراد. وفقًا للقوانين الدولية والتشريعات الوطنية ذات الصلة. وهذا ما فرضته البروتوكولات الإضافية واتفاقيات جنيف على الأطراف المتحاربة، بما يشمل توفير آلية للإبلاغ عن حالات المفقودين وتنظيم الجهود مع المنظمات الإنسانية الدولية.

أما الاختفاء القسري الذي عرّفته المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006، فهو يشمل "القبض على الأشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل جهات رسمية أو من يتصرفون بإذنها أو دعمها أو بموافقتها، مع إنكار الاعتقال أو إخفاء مصير هؤلاء الأشخاص أو أماكن وجودهم، مما يضعهم خارج نطاق حماية القانون."[16] وتُعتبر هذه الحالات انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان، حيث يتعرض الضحايا للتعذيب وسوء المعاملة في غياب أي معلومات عن مصيرهم، مما يزيد من معاناتهم الإنسانية.

تؤكد منظمة العفو الدولية أن الاختفاء القسري يُستخدم كأداة لبث الخوف والرعب داخل المجتمع بأسره. ووفقًا لتعريف الأمم المتحدة، تتوافر في جريمة الاختفاء القسري ثلاثة عناصر رئيسية: حرمان الفرد من حريته ضد إرادته، وتورط جهة رسمية على الأقل بشكل مباشر أو ضمني، ورفض الاعتراف بالحرمان من الحرية أو إخفاء مصير الشخص ومكان احتجازه.[17] 

يعد الاختفاء القسري من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان، فهو يشكل خرقًا لكل من القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، وفي بعض الحالات قد يُعتبر جريمة ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998.[18]علاوة على ذلك، فإنه ينتهك الحقوق الأساسية للأفراد، مثل[19]:

  1. الحق في الحرية والأمان الشخصي، يعرض هذا الحق للخطر في ظل الاختفاء القسري، حيث يبقى الشخص المختطف خارج نطاق حماية القانون.
  2. الحق في عدم التعرض للتعذيب، كثيرًا ما تتعرض الحالات المختطفة قسريًا للتعذيب أو المعاملة القاسية واللاإنسانية.
  3. الحق في الاعتراف بالشخص أمام القانون، إن الاختفاء القسري يحرم الضحايا من حقهم في الاعتراف بهم كأشخاص قانونيين، ويمنعهم من التمتع بحقوقهم القانونية الأساسية. (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، المواد (6،7،9).

على الرغم من هذا الإطار القانوني، تبرز فجوات واضحة على المستوى الوطني الفلسطيني، حيث لا تعالج التشريعات المحلية، مثل القانون الأساسي الفلسطيني وقانون الإجراءات الجزائية، حالات الاختفاء القسري أثناء النزاعات. كما أن القوانين الخاصة لم تضع آليات فعالة لحماية المفقودين أو لذويهم.

وفي هذا السياق اشار المحامي محمد عودة، بأن الإطار التشريعي الفلسطيني لا يتضمن نصوصًا خاصة أو إجراءات تحكمية واضحة لمعالجة وضع المفقودين أو المختفين قسرًا، مما يترك فراغًا قانونيًا في التعامل مع هذه الحالات. وأوضح أن التعامل القضائي يتم عبر اللجوء إلى الطلبات المستعجلة أمام اللجان القضائية المختصة حالياً، والتي تقوم بإجراء بحوث وتحريات قد تنتهي بإصدار حكم قضائي بوفاة الشخص المفقود، إلا أن هذا المسار لا يوفر حماية أو مساءلة خاصة للمفقودين قسرًا.[20]

وانعكاسًا لهذا القصور التشريعي، يتضح على أرض الواقع أن قطاع غزة يشهد نمطًا مقلقًا من هذه الانتهاكات؛ إذ يُعتبر مفقودًا كل شخص انقطع الاتصال به بسبب الأعمال الحربية في قطاع غزة، سواء بعد قصف إسرائيلي أو أثناء النزوح أو في منطقة توغل، دون أن يتم التعرف على جثته أو تأكيد مصيره، مما يجعله غير معتمد كشهيد. (لعدم وصول جثته للمستشفيات والمرافق الصحية)، ولا يعرف هل هو حي أم ميت، وهل هو معتقل أم مختف[21]

وفي تأكيد على خطورة هذا الواقع الميداني، يؤكد صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، أن الاختفاء القسري الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة يمثل جريمة ضد الإنسانية، وجزءًا من سياسة العقاب الجماعي، حيث لا يقتصر الضرر على المختفي بل يمتد إلى أسرته التي تعيش معاناة دائمة جراء الغموض حول مصيره[22]

ولأن المعالجة المحلية لهذه الحالات تبقى محدودة، تبرز أهمية الدور الدولي في هذا الإطار، وهو ما أوضحه الباحث ماهر مسعود، حيث أشار إلى إن قضايا الإخفاء القسري تُعتبر انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وتتم معالجتها دوليًا عبر آليات مثل لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الإخفاء القسري، المحكمة الجنائية الدولية، ولجنة حقوق الإنسان. ومن خلال هذه الآليات، يتم التحقيق في هذه القضايا وتوثيقها، كما بين أن التوثيق الفعّال لهذه الحالات في مناطق النزاع، لاسيما في قطاع غزة، يواجه تحديات كبيرة، منها القيود الميدانية، وصعوبة الوصول إلى الضحايا أو الشهود، والتشويش على وسائل الاتصال، مما يعقد الجهود الرامية إلى استجلاء مصير المختفين قسرًا ومساءلة الجناة.[23]

المسؤولية القانونية والالتزامات الدولية

تعد السلطة الفلسطينية، باعتبارها السلطة الحاكمة والممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، مسؤولة عن حماية حقوق مواطنيها وتقديم الدعم والرعاية لضحايا الحروب والنزاعات المسلحة. هذه المسؤولية تكتسب أهمية خاصة في حالات مثل تلك التي نشأت إثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023. 

تتحمل السلطة مسؤولية قانونية وأخلاقية واضحة تجاه معالجة ملف المفقودين والمختفين قسرًا، ويتطلب ذلك الالتزام بالمعايير الدولية ذات الصلة، ومنها اتفاقيات جنيف والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ويُعد تبني هذه المبادئ خطوة ضرورية لضمان حماية الأفراد المتأثرين[24]. وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام (2006)، إلا أن انضمامها إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966 يُحملها التزامًا واضحًا بحماية الحق في الحرية والأمان الشخصي، بما يشمل معرفة مصير المفقودين، وضمان الحماية من الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري [25]. الا أن التطبيق العملي لهذه المعايير يواجه تحديات كبيرة بسبب المشهد السياسي المعقد في فلسطين، ونقص الموارد والقدرات الفنية لتوثيق الحالات أو التحقيق فيها. كما يزيد الانقسام الداخلي من صعوبة تنسيق الجهود الحقوقية. 

رغم هذه الصعوبات، تواصل المؤسسات الحقوقية المستقلة مثل مؤسسة الضمير والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان توثيق حالات المفقودين والمختفين قسرًا، عبر جمع البيانات من الأسرى المحررين وتقديم الدعم القانوني للمتضررين. ومع ذلك، يظل غياب بنية قانونية قوية قادر على إجراء تحقيقات شاملة وشفافة تحديًا كبيرًا، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها.[26]

في إطار النزاع القائم، تقع المسؤولية على عاتق جميع الأطراف، بما في ذلك القوات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية، لضمان حماية المدنيين. ويُحظر، بموجب القانون الدولي الإنساني، استهداف المدنيين أو تعريضهم لممارسات مثل الإخفاء القسري. لكن استمرار القتال يخلق واقعًا معقدًا يعيق تطبيق هذه الحماية بشكل فعّال[27]

على الصعيد الدولي، أكد المحامي محمد عودة إلى أن هناك التزامًا قانونيًا على إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، بإخطار الجهات المختصة مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وبدورها اخطار عائلات المفقودين بأي حالات اعتقال أو فقدان. إلا أن إسرائيل تنتهك هذا الالتزام بشكل ممنهج، حيث تقوم باعتقال الأفراد بناءً على الشبهة، دون توجيه تهم رسمية، وغالبًا تصنفهم كـ “إرهابيين"، كما ترفض الاستجابة لأي تواصل رسمي مع السلطة الفلسطينية أو المؤسسات الحقوقية الدولية. أشار عودة على أن جهود الحشد والمناصرة لقضية المفقودين قسرًا تتطلب عملًا منظمًا يتجاوز الخطابات التقليدية، عبر استقطاب دعم الدول والمؤسسات الدولية وممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل، خاصة وأن السلطة الفلسطينية لا تملك الوسائل القانونية أو التنفيذية لإجبار إسرائيل على الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني.[28]

تتطلب قضية المفقودين قسرًا جهودًا منسقة على الصعيدين المحلي والدولي، إذ ينبغي ممارسة الضغط على إسرائيل لدفعها إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني. ولكن الواقع الميداني في قطاع غزة يعكس غياب آليات قضائية فعّالة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.

أما عن الفجوة بين المعايير القانونية الدولية والواقع على الأرض، فإن غياب الإرادة السياسية من بعض الأطراف والضعف في تنفيذ الآليات الدولية يعقد الوضع بشكل أكبر. ولذا، فإن هناك حاجة ماسة لتكثيف الضغط السياسي والدبلوماسي، وتفعيل أدوات المساءلة من خلال المحكمة الجنائية الدولية وأدوات الأمم المتحدة. وبالرغم من هذه التحديات، يمكن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم دوليًا عبر المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال تطبيق مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، حيث يمكن لدول معينة محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة أو جنسية المتورطين، وهذا يتطلب تكثيف التعاون بين الدول والمنظمات الحقوقية لضمان تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي هذه الجرائم.[29]

توصيات موجهة للسلطة الفلسطينية للتعامل مع قضية المفقودين والمختفين قسرا: 

تعامل السلطة الفلسطينية مع قضية المفقودين والمختفين قسريًا في قطاع غزة خلال الإبادة الجماعية التي تعرض لها القطاع في حرب أكتوبر 2023 يتطلب نهجًا متعدد الأبعاد يشمل القضايا الإنسانية، القانونية، والاجتماعية. في سياق هذه الجريمة الإنسانية الكبرى، يمكن للسلطة الفلسطينية اتخاذ مجموعة من الإجراءات الهامة لمتابعة تلك القضية والتعامل معها على عدة مستويات. 

  1. سن تشريعات وطنية ملزمة إصدار قانون خاص بحماية المفقودين والمختفين قسرًا يُنظم آليات التبليغ، البحث، التوثيق، والمساءلة، ويكرّس حق العائلات في المعرفة والإنصاف، بما ينسجم مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة ويعزز الإطار الحقوقي المحلي.
  2. تأسيس قاعدة بيانات وطنية موحدة إنشاء نظام مركزي لتوثيق حالات الاختفاء القسري، يجمع بيانات دقيقة وشهادات موثقة بالتعاون مع العائلات والمؤسسات الحقوقية المحلية والدولية، وبإشراف جهات أممية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر لضمان الشفافية والمصداقية.
  3. تشكيل لجنة وطنية دائمة، استحداث لجنة مختصة تضم ممثلين من الجهات الحكومية والمجتمع المدني، تتولى متابعة القضية، التنسيق مع الجهات المعنية، وتقديم تقارير دورية حول مستجدات الملف.
  4. تفعيل التعاون الدولي ومسارات العدالة، تعزيز الشراكة مع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لتوثيق الانتهاكات والمطالبة بتحقيقات دولية مستقلة، والعمل على إحالة هذه الجرائم إلى المحاكم الجنائية المختصة لضمان المحاسبة.
  5. إطلاق حملة إعلامية ودبلوماسية فعالة، تفعيل دور الإعلام المحلي والدولي لنقل معاناة الأسر وتسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية للقضية، بالتوازي مع تحركات دبلوماسية لحشد الدعم الدولي والمطالبة بتقارير أممية توثق حالات الاختفاء.
  6. حماية ودعم حقوق الأسر المتضررة، توفير قنوات رسمية للإبلاغ والاستفسار عن مصير المفقودين، وتقديم دعم نفسي واجتماعي وقانوني للعائلات من خلال برامج حكومية أو مجتمعية متخصصة.
  7. ضمان الشفافية وتوفير المعلومات، إصدار تقارير رسمية دورية تُبرز أعداد المفقودين ونتائج التحقيقات، واستخدام المنصات الإعلامية لنشر الوعي بحقوق الأسر المتضررة والمطالب المشروعة.
  8. توحيد الجهود الوطنية، تنسيق الجهود بين المؤسسات الرسمية والفصائل والجهات الحقوقية في الداخل والخارج لتشكيل جبهة موحدة تطالب بكشف مصير المفقودين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. 

[1] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، https://www.pcbs.gov.ps/site/lang__ar/1405/Default.aspx?utm_source=chatgpt.com

[2] المرجع السابق 

[3] مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA). (2024). تحديثات إنسانية حول قطاع غزة.

[4] المركز الفلسطيني المفقودين والمختفين قسرا

[5] مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان. (2024، 30 أغسطس). مؤسسات الأسرى: الآلاف من معتقلي غزة تعرضوا لجريمة الإختفاء القسري منذ بدء حرب الإبادة.  https://www.addameer.org/es/node/5397 بال بوست، ٢٥ـ٢-٢٠٢٥.

[6] بال بوست ٢٥ـ٢ـ٢٠٢٥https://www.facebook.com/share/p/164m4cpMBp/

[7] المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان. (2024، 10 أبريل). 13 ألف فلسطيني في عداد المفقودين في قطاع غزة. https://euromedmonitor.org/ar/article/6262/13-ألف-فلسطيني-في-عداد-المفقودين-في-قطاع-غزة

[8] شرشرة، عبد الله، & أبو ركبة، طلال. (2024). تقرير حول الاختفاء القسري في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023

[9] قناة المنار. (2024، 16 نوفمبر). الاختفاء القسري في غزة بين السجون السرية ومقابر المجهولين. https://www.almanar.com.lb/9970359

[10] غزة: "قانون المقاتلين غير الشرعيين" ينتهك الحقوق، بيان صحفي،( ١-٣-٢٠١٧،https://www.hrw.org/ar/news/2017/03/01/300606

[11] مرجع سابق، الاختفاء القسري في غزة بين السجون السرية ومقابر المجهولين.

[12] مؤسسة الضمير، https://www.addameer.org/ar/statistics/2025/04

[13] اللجنة الدولية للصليب الأحمر. (1949). اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977.

[14] المرجع السابق.

[15] دليل القانون الإنساني المفقودون والموت.

[16] الأمم المتحدة. (2006). الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.

[17] منظمة العفو الدولية تقارير وتحليلات حول حالات الاختفاء القسري.

[18] المحكمة الجنائية الدولية. (1998). نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

[19] مرجع سابق، اتفاقية الاختفاء القسري.

[20] مقابلة هاتفية، المحامي والمستشار القانوني محمد عودة، 27-4-2025.

[21] مرجع سابق، المركز الفلسطيني المفقودين والمختفين قسرا.

[22] خبير قانوني ل فلسطين اون لاين: الاختفاء القسري عقاب جماعي برقة إلى جرائم ضد الإنسانية https://felesteen.news/post/154805

[23] مقابلة ماهر مسعود، باحث دكتوراة لدى جامعة TSUL، ٢٧-٤-٢٠٢٥.

[24] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. (1966). العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

[25] الأمم المتحدة. (1966). العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

[26] الطناني، أ. (2025، 12 يناير). أرواح لا تُعدّ.. مفقودو غزة بين غياب التوثيق والمصير المجهول. نون بوست.  https://www.noonpost.com/285352/

[27] مرجع سابق - اتفاقيات جنيف.

[28] مرجع سابق، مقابلة محمد عودة.

[29] مرجع سابق، مقابلة ماهر مسعود.

  هبة كمال الدحدوح

  محامية وناشطة حقوقية ومجتمعية، أعمل مع مؤسسات المجتمع المدني لتعزيز العدالة الاجتماعية وتمكين الأفراد. شغوفة بالعلاقات الدولية والعلوم السياسية، وأركز على القضايا الإنسانية وحقوق الإنسان.

الوسوم