قراءة ميدانية وحقوقية
يواصل قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 مواجهة كارثة إنسانية مركّبة، تزداد تعقيدًا مع كل جولة تصعيد جديدة، وسط تدهور متسارع في الأوضاع المعيشية، وتآكل منظومة الحماية المدنية، وتفكك البنية الاجتماعية. وبينما شهدت الشهور الأولى من عام 2025 موجة عودة جزئية للنازحين بفعل وقف إطلاق النار المعلن في 19 يناير، عادت موجات النزوح القسري لتتصاعد ابتداءً من أواخر مارس، نتيجة اتساع رقعة العمليات العسكرية، وتكثيف أوامر الإخلاء، والاستهدافات المتكررة لمناطق تكدس النازحين.
في هذا السياق، تسعى هذه الورقة إلى تقديم تحليل رصدي وحقوقي لحالة النزوح الداخلي في قطاع غزة خلال الفترة الممتدة من 30 مارس وحتى 30 يونيو 2025، مركّزة على أنماط النزوح المتكرّر، وتحولات خريطة الإيواء، والانتهاكات الجسيمة التي طالت النازحين، في ظل الانهيار شبه الكامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية. وتستند هذه الدراسة إلى بيانات موثوقة من "المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي"، وتقارير محلية ودولية، بهدف فهم المشهد الإنساني المتغير، وتقييم مدى احترام قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة.
ولا تنفصل هذه القراءة عن محاولات متواصلة لكشف الحقائق، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم دعم معرفي للجهود الإنسانية والحقوقية الهادفة إلى حماية السكان المدنيين، وإنصاف الضحايا، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، في ظل غياب المساءلة الدولية الفاعلة حتى الآن.
تعتمد هذه الورقة على منهج رصدي تحليلي متعدد الأدوات، يدمج بين التوثيق الميداني المباشر، وتحليل البيانات الكمية والنوعية، من خلال المصادر التالية:
وتولي هذه الدراسة أهمية خاصة لتحليل العلاقة بين التحولات في نمط النزوح والانتهاكات المرتكبة ضد النازحين، سواء أثناء التنقل أو داخل مراكز الإيواء، بما يتيح تقديم قراءة معمقة تتجاوز العرض الإحصائي، إلى فهم ديناميكيات الاستهداف، في ظل غياب ممرات آمنة وضعف الاستجابة الدولية.
أولا، أبريل: تصاعد النزوح في الجنوب واستهداف ممنهج لمراكز الإيواء
مثّل شهر أبريل 2025 إحدى أكثر الفترات دموية في مسار النزوح الداخلي بقطاع غزة، حيث تصاعدت الإنذارات العسكرية الصادرة عن جيش الاحتلال الاسرائيلي، وترافقت مع استهداف مباشر لمراكز الإيواء وخيام النازحين، خصوصًا في مناطق جنوب قطاع غزة. وقد رُصدت خلال الشهر موجات نزوح متكررة أجبرت عشرات الآلاف على النزوح نحو "المواصي" ومناطق ساحلية مكشوفة، في ظل انعدام ممرات آمنة واستمرار إغلاق المعابر لليوم الستين على التوالي.
شهد هذا الشهر إصدار 15 إنذاراً بالإخلاء من قبل جيش الاحتلال الاسرائيلي، شملت مناطق واسعة في شمال القطاع (بيت حانون، الشيخ زايد، تل الزعتر، جباليا، الشجاعية)، إضافة إلى رفح وخان يونس والنصيرات، ما أدى إلى حركة نزوح كثيفة نحو مناطق الغرب. ورُصد تحول متكرر في الوجهات المفترضة للنزوح، دون أي توفير للخدمات الأساسية، أو ضمانات للسلامة.
خلال أبريل وحده، تم توثيق أكثر من35 حادثة استهداف مباشر لمراكز الإيواء وخيام النازحين، أسفرت عن مئات الضحايا، بينهم أطفال ونساء. من أبرز الحوادث:
كما استهدفت الغارات مراكز إيواء بها نازحين مثل: مدرسة معاوية بن أبي سفيان، مدرسة حلب، ملعب اليرموك، نادي الشجاعية، مدرسة يافا، مدرسة الفرابي، مركز الشافعي، ومدرسة الأيوبية، ما أفضى إلى سقوط قتلى وجرحى وتدمير أجزاء واسعة من البنى المؤقتة للإيواء.
وأدى تكرار الاستهدافات في "المواصي" إلى تقويض ما تبقى من الأمان النسبي فيها، خاصة بعد قصف محيط المستشفى الميداني البريطاني جنوب غرب خانيونس جنوبي قطاع غزة، و"أبراج حمد" غرب مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، و"شارع الإسطبل" في مواصي مدينة خانيونس الذي شهد مقتل 15 شخصًا في هجوم واحد، غالبيتهم من الأطفال.
كما شهد شهر أبريل2025 استهدافات متكررة لمرافق الإغاثة والطعام (مراكز توزيع، مطابخ مجتمعية)، ما يندرج ضمن سياسة ممنهجة للتجويع والضغط الجماعي.
وقد صاحب هذه الأحداث انهيار شبه تام في سلاسل الإمداد، حيث أعلنت الأونروا وبرنامج الغذاء العالمي في 26 أبريل/2025 عن نفاد مخزون المواد الغذائية بالكامل، بالتزامن مع استمرار الحصار وإغلاق المعابر، وشح الوقود والدقيق، وإغلاق المخابز، ما زاد من حالة الفوضى الإنسانية، لا سيما في مواقع النزوح الجديدة.
رُصد كذلك ظهور مظاهر الانهيار الكامل لمراكز النزوح، مع تقلص كبير في الخدمات الطبية أو الصحية أو المياه نظيفة، وعودة تفشي الأمراض بين الأطفال خاصة الأمراض الجلدية، في ظل الكثافة السكانية المرتفعة، وعدم كفاية الدعم الإنساني.
ثانيا، مايو: تصاعد النزوح شمالًا وعودة الاستهدافات العشوائية لمراكز الإيواء
شكّل شهر مايو 2025 واحدة من أكثر الفترات تصاعدًا في حركة النزوح القسري داخل قطاع غزة، حيث سجل المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي نزوحًا جماعيًا واسعًا شمل غالبية مناطق شمال القطاع ووسطه وجنوبه، بفعل تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، واتساع نطاق الإنذارات بالإخلاء، وتكرار استهداف مراكز الإيواء، والطرق التي يسلكها النازحون.
شهد الأسبوع الثاني من مايو وحده نزوح أكثر من 172,000 شخص، في حين بلغ العدد التراكمي للنازحين منذ منتصف مارس أكثر من 600,000 نازح. تركزت موجات النزوح الكبرى في مخيم جباليا، بيت لاهيا، الشيخ زايد، مشروع بيت لاهيا، وتل الزعتر في مناطق شمال قطاع غزة، وامتدت لاحقًا إلى مناطق شرق دير البلح وخانيونس جنوبي قطاع غزة. وبفعل تكرار القصف في محيط مراكز الإيواء والخيام، لجأت آلاف العائلات إلى التحرك غربًا صوب مناطق أقل خطرًا، أبرزها الشيخ رضوان، أرض المقوسي، الميناء غرب مدينة غزة، ومواصي خانيونس في جنوب قطاع غزة، مع بقاء الكثير منها في العراء أو في خيام مؤقتة تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
رُصد خلال الشهر إصدار جيش الاحتلال لعشر إنذارات بالإخلاء، طال بعضها أحياء مكتظة ومراكز إيواء محددة، مثل: جباليا، الشيخ زايد في شمال قطاع غزة، الرمال الجنوبي، حي النصر في مدينة غزة، القرارة، عبسان الكبيرة جنوب قطاع غزة، دون أن تترافق مع تحديد وجهة آمنة، ما أدّى إلى تفشي الفوضى، وترك آلاف المدنيين عرضة للاستهداف أثناء محاولات النزوح.
سُجّل خلال شهر مايو استهداف مباشر لأكثر من 35 موقعًا يُستخدم كمركز ايواء للنازحين، أبرزها:
كما تم توثيق استهداف تكيّات الطعام ومراكز التوزيع، بما في ذلك هجمات على شارع النفق، عبد العال شرق مدينة غزة، والحساينة شمال النصيرات وسط قطاع غزة، وهي سياسة تبدو متعمّدة لتقويض أي شكل من أشكال البقاء، وتعميق المجاعة والضغط الجماعي.
في 7 مايو2025، أعلنت الحكومة الفلسطينية رسميًا قطاع غزة منطقة مجاعة، بعد نفاد مخزونات الغذاء، وإغلاق المعابر لأكثر من 70 يومًا متواصلة. وشهدت تلك الفترة خروج المستشفيات في شمال القطاع عن الخدمة، ووفاة أطفال نتيجة الجوع، إضافة إلى انهيار المرافق الصحية ومراكز الإيواء. كما انتشرت ظواهر خطيرة كـ “قطع الطرق" لنهب المساعدات، واندلاع اشتباكات في طوابير الخبز والوقود.
رغم وجود إشارات واضحة على تعمّد استهداف المدنيين، لم تُسجَّل أي آلية حماية فعّالة من قبل المجتمع الدولي أو منظمات الإغاثة. بل على العكس، طالت الاستهدافات فرق تأمين المساعدات، وفرق الإسعاف، ومداخل المستشفيات، مثل استهداف المستشفى الميداني الكويتي، والمستشفى الإندونيسي المحاصر، ما زاد من هشاشة الوضع الإنساني، وأفقد النازحين أي شعور بالأمان أو القدرة على التحمّل.
ثالثا، يونيو: تصاعد النزوح وتفاقم الأزمة الإنسانية وسط استهداف ممنهج
اتّسم شهر يونيو 2025 بتصعيد واسع في وتيرة الانتهاكات بحق النازحين في قطاع غزة، وتسجيل أعلى معدلات القتل الجماعي في محيط مراكز الإيواء ونقاط توزيع المساعدات، مع اتساع رقعة أوامر الإخلاء القسري، وظهور مؤشرات متزايدة على الانهيار الكامل لنظام الإغاثة والمساعدة الإنسانية.
رغم التراجع الكمي في أعداد النازحين مقارنة بالشهر السابق، فقد شهد شهر يونيو موجات نزوح متكررة ومركّزة، خصوصًا من شمال ووسط قطاع غزة باتجاه مناطق مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة ومدينة دير البلح وسط قطاع غزة. ورُصد خلال الأسبوعين الأولين من يونيو نزوح أكثر من 70,000 نازح جديد، بينهم عائلات أجبرت على النزوح ثلاث مرات أو أكثر خلال الأسابيع الأخيرة، في ظل غياب الملاذات الآمنة.
وتزامن ذلك مع إصدار الاحتلال لأكثر من 12 إنذارًا رسميًا بالإخلاء، شملت أحياءً واسعة في جباليا في شمال قطاع غزة، حي التفاح، الزيتون شرق مدينة غزة، ومناطق شرق خان يونس جنوبي القطاع، أدّت إلى حالة هلع وفوضى، وفاقمت من الاكتظاظ داخل مناطق النزوح المكتظة أصلًا.
أبرز ما ميز يونيو هو تواتر الاستهدافات العنيفة والمباشرة لمراكز الإيواء، وخيام النازحين، وطوابير توزيع المساعدات، في نمط متكرر يدل على سياسة ممنهجة لضرب مقومات البقاء.
تم توثيق أكثر من70اعتداء مباشر على مراكز الإيواء والخيام خلال الشهر، أبرزها:
برزت أيضًا ظاهرة استهداف مركّز لمراكز الطهي المجتمعية، والمخابز، ومركبات الإغاثة، كما حدث في:
بحلول منتصف يونيو2025، أُعلنت مناطق واسعة من قطاع غزة بمثابة "مناطق منكوبة إنسانيًا"، مع تسجيل:
رغم التوثيق المتكرر لانتهاكات جسيمة، لم يُسجل أي تحرك فاعل لمنعها، بل امتدت الاعتداءات إلى:
ووفق بيانات مكتب الأوتشا ا[1]لصادرة في 26 يونيو2025، فإن أكثر من 82% من مساحة قطاع غزة أصبحت إما خاضعة لأوامر إخلاء أو مصنفة كمناطق عسكرية مغلقة، ما يعني إغلاق شبه تام لأي هامش للحركة أو النجاة.
كشف تحليل حالة النزوح الداخلي في قطاع غزة خلال الربع الثاني من عام 2025 عن واقع إنساني كارثي يتجاوز حدود الأزمات التقليدية، ويكرّس نمطًا متصاعدًا من الانكشاف والفقد. فقد بات النزوح لا يعبّر فقط عن فقدان السكن أو الأمان، بل تحوّل إلى حالة دائمة من التهجير المتكرر، وسط انعدام البدائل، وانهيار منظومة الحماية، واستهداف ممنهج للمراكز الإنسانية ومرافق الإيواء.
تظهر المعطيات أن سياسات الاحتلال الاسرائيلي لم تعد تقتصر على التهجير القسري فحسب، بل اتخذت شكلًا مركبًا من الحصار والتجويع والقتل الجماعي في صفوف النازحين، الأمر الذي يشكّل خرقًا جسيمًا وممنهجًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة، ويستدعي تحركًا دوليًا عاجلًا.
بناءً على ما سبق، تصوي هذه الورقة بما يلي:
محامٍ وكاتب فلسطيني، هُجرت عائلته إلى قطاع غزة عام 1948 من مدينة يافا، باحث قانوني ضمن فريق المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي.