عربيعربي
الحق في ملكية الأرض والسكن تحديات فرض المناطق العازلة في قطاع غزة

الحق في ملكية الأرض والسكن تحديات فرض المناطق العازلة في قطاع غزة

تشهد مناطق قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر تصعيداً غير مسبوق في سياسات الاحتلال الإسرائيلي، التي تهدف إلى مصادرة الأراضي وتهجير السكان الأصليين قسراً وفرض السيطرة عليها بالقوة. ولم تقتصر هذه الانتهاكات على استهداف المدنيين وقتلهم بوسائل مباشرة ووحشية، بل امتدت إلى انتهاك الحقوق الأساسية في الملكية والسكن، مما أدى إلى تدهور خطير في الأوضاع القانونية والإنسانية.

ووفقاً لتقارير المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي، فقد تعرض 42٪ من منازل القطاع لأضرار جزئية، فيما دُمر 52٪ منها تدميراً كاملاً. كما طالت الاعتداءات الأراضي الزراعية التي تمثل شرياناً حيوياً للأمن الغذائي ومصدراً أساسياً لفرص العمل لآلاف الأسر، حيث تشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن نحو 95٪ من هذه الأراضي أصبحت غير صالحة للزراعة نتيجة إقامة المناطق العازلة والاستيلاء عليها. ولم يتبق سوى 5٪ من الأراضي الزراعية القابلة للاستغلال، بعد تدمير المزارع والبذور وشبكات الري ومرافق الصيد، واستهداف الثروة الحيوانية والأشجار المثمرة.

وبناءً عليه، أصبحت غزة – التي كانت تنتج أكثر من 30٪ من احتياجاتها الغذائية محلياً – عاجزة عن توفير الحد الأدنى من قوتها اليومي، في ظل سياسات ممنهجة تستهدف تحطيم سيادتها الغذائية، وفق ما يؤكده اتحاد لجان العمل الزراعي.

بناءً على ما سبق، يتناول هذا التقرير عرضاً تفصيلياً للإحصاءات المتعلقة بانتهاكات الحق في الملكية والسكن والأراضي في قطاع غزة، ويضم شهادات حيّة لمواطنين ومزارعين تعكس حجم المعاناة على أرض الواقع. كما يقدّم تحليلاً للواقع القانوني الدولي لهذه الانتهاكات، في محاولة لتسليط الضوء على أبعادها القانونية والإنسانية، وبيان مدى تعارضها مع قواعد القانون الدولي الإنساني ومعايير حقوق الإنسان.

المحور الأول: تحليل الأساس القانوني الدولي لحماية حق السكن والملكية وفقآ لاتفاقية جنيف، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

تشير المعطيات إلى أن ما نسبته 86٪ من مساحة قطاع غزة باتت إما مناطق عسكرية مغلقة أو خاضعة لأوامر الإخلاء، وهو ما يشكل انتهاكاً صارخاً للحق في الملكية والسكن المكفولين بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ويُظهر سلوك الاحتلال الإسرائيلي المنهجي – من تدمير للمساكن وتهجير قسري لسكانها الأصليين، وتخريب الأراضي الزراعية والاستيلاء عليها، وإنشاء مناطق عازلة – نمطاً منظماً من الانتهاكات التي تقوّض الحق في السكن والحياة الكريمة، وتشكل خرقاً جسيماً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف.

وفي إفادة كتابية موثقة بتاريخ 31/9/2025 لغرض هذا التقرير، أكد المحامي محمد سامي الشياح أن الحق في الملكية الخاصة منصوص عليه صراحة في المادة (17) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن الحق في السكن الملائم مكفول في المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهما حقان غير قابلين للتجزئة ولا يجوز تقييدهما تعسفاً أو انتهاكهما تحت ذرائع أمنية. واعتبر الشياح أن هذه السياسات تمثل شكلاً من أشكال التهجير القسري الذي يرقى إلى جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

المحور الثاني: الآثار المترتبة على انشاء المناطق العازلة بالقوة مثل (مصادرة الأراضي-تدمير الملكيات - الحرمان من سبل العيش)

أنشأ الاحتلال الإسرائيلي ما يُعرف بـ "المنطقة العازلة" في أجزاء واسعة من قطاع غزة، ما أدى إلى تقليص مساحة القطاع بشكل متزايد وانعكس سلباً على حياة السكان والمزارعين. تبدو هذه السياسة وكأنها محاولة لفرض سيطرة عسكرية طويلة الأمد، من خلال تقسيم القطاع إلى مناطق منفصلة تربطها ممرات ومحاور، وتوسيع المنطقة العازلة القائمة على طول الحدود مع إسرائيل بشكل كبير، إلى جانب إنشاء طرق جديدة لم تكن موجودة سابقاً.

إن مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والسكنية وتحويلها إلى مناطق عازلة تعني عملياً تهجير عشرات آلاف الأسر الفلسطينية وحرمانها من أراضيها ومنازلها، ما يفاقم أزمة النزوح الداخلي ويقوّض أي إمكانية لإعادة الإعمار أو استعادة الحياة الطبيعية. وتشكل هذه الإجراءات شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، حيث تشير إحصائيات المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي إلى أن نسبة النزوح القسري بلغت 100٪ في مدينة رفح، و51٪ في خان يونس، و41٪ في دير البلح، و78٪ في مدينة غزة، و84٪ في شمال القطاع.

وفي إفادة موثقة بتاريخ 2/9/2023 لغرض هذا التقرير، أكدت المحامية حسنة أبو سيدو أن سياسة "المناطق العازلة" التي يفرضها الاحتلال على طول الحدود الشرقية والشمالية تمثل انتهاكاً صارخاً للحقوق الأساسية للفلسطينيين. إذ تحرم آلاف المواطنين من أراضيهم الزراعية ومصادر رزقهم، وتتسبب في تدمير المنازل والممتلكات المحيطة بتلك المناطق، وتشكل عقوبة جماعية مخالفة للمادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، كما أنها تفتقر لأي أساس قانوني أو مبرر عسكري مشروع وفق مبدأي التناسب والضرورة.

وأضافت أبو سيدو أن "المناطق العازلة" في غزة سياسة غير مشروعة ترقى إلى انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وتستوجب المساءلة الدولية وتعويض الضحايا. كما أن تحويل الأراضي العامة والخاصة إلى مناطق عسكرية محظورة يمسّ بشكل مباشر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، ويهدد مصادر رزق آلاف العائلات التي تعتمد على الزراعة، خصوصاً في المناطق الشرقية للقطاع، فضلاً عن أنه يزيد من الاكتظاظ السكاني ويقلّص المساحة الجغرافية المخصصة للحياة المدنية في قطاع يعاني أصلاً من الحصار.

المحور الثالث: تأثير المناطق العازلة على الاراضي الزراعية والمزارعين وأصحاب الاراضي وعلى التركيبة الاجتماعية والديمغرافية للقطاع 

يُعدّ قطاع الزراعة في غزة ركيزة أساسية لحياة سكانه على المستويات كافة، إذ يسهم في تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير فرص العمل، ودعم الاقتصاد المحلي المتهالك أصلاً. وتشكل الأراضي الزراعية نحو 41٪ من إجمالي مساحة القطاع، ما يمنحها أهمية استراتيجية في الناتج المحلي، حيث يعتمد سكان غزة على إنتاج الخضروات والفواكه، فضلاً عن تصدير العديد من المحاصيل إلى الخارج، ما يوفر مصدر دخل رئيسي لآلاف المزارعين.

منذ السابع من أكتوبر 2023، تعرضت الأراضي الزراعية لدمار واسع نتيجة سياسات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة، بما في ذلك توسيع "المناطق العازلة" على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع، واقتطاع مساحات واسعة من الأراضي المملوكة للمزارعين لإنشاء محاور عسكرية واستيطانية. ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، لم يتبقّ سوى أقل من 5٪ من الأراضي الزراعية متاحة للزراعة، في حين تضرر أكثر من 80٪ منها بشكل مباشر، ودُمر ما نسبته 32.8٪ من الآبار الزراعية، بينما بلغت نسبة الأراضي المقيّد الوصول إليها نحو 33.6٪.

وقد اتخذ الاحتلال منذ السابع من أكتوبر 2023 سياسة تدميرية ممنهجة استهدفت القضاء على الأمن الغذائي في غزة، حيث جُرّف نحو 90٪ من الأراضي الزراعية، بما في ذلك 35 ألف دونم من أراضي بيت لاهيا وبيت حانون وشرق جباليا شمال القطاع، ما أخرج هذه المساحات من دائرة الإنتاج الزراعي بالكامل. وفي مدينة رفح، حُرم السكان بشكل كامل من الوصول إلى أراضيهم الزراعية التي تقدّر بنحو 25 ألف دونم، وهو ما يعني أن 45٪ من مجمل الأراضي الزراعية في القطاع خرجت من الإنتاج.

وفي إفادة موثقة بتاريخ 7/9/2025، أكدت المهندسة الزراعية إيمان نوفل أن "القطاع الزراعي في غزة يعيش أسوأ مراحله على الإطلاق بسبب وقوع مساحات شاسعة ضمن المناطق العازلة التي يسيطر عليها الاحتلال"، مشيرة إلى أن استمرار الحرب منذ السابع من أكتوبر فاقم معاناة المزارعين، خصوصاً مع شح المياه أو ارتفاع نسبة ملوحتها، ما يتسبب بأضرار كبيرة للمحاصيل الزراعية. وأوضحت أن الاحتلال يتعمد استهداف آبار المياه والدفيئات الزراعية وتدميرها، في ظل ضعف الإمكانات الزراعية وتراجع التمويل المؤسسي بسبب استمرار الحرب وانعدام الاستقرار، ما يهدد الأمن الغذائي برمته في القطاع.

المحور الرابع: شهادات موثقة للضحايا

في إفادة شخصية موثقة لغرض هذا التقرير بتاريخ 2/9/2025، يروي السيد إبراهيم أبو أحمد، وهو نازح من شرق حي الشجاعية ويقيم حالياً في مخيم المدينة، معاناته قائلاً: "أنا مثل أي مواطن في غزة، دمر الاحتلال الإسرائيلي منزلي يوم 8 أكتوبر 2023، أي في اليوم الثاني للحرب. لم يكتفوا بذلك، بل جرفوا أرضي التي ورثتها عن والدي، وكانت مزروعة بأشجار زيتون عمرها أقدم من وجود الاحتلال نفسه. كانت هذه الأرض مصدر رزق عائلتي من بيع الزيت والزيتون سنوياً. اليوم استولى الاحتلال على المنزل والأرض معاً، خاصة وأنهما يقعان على الحدود الشرقية للشجاعية، التي صارت تُصنّف كمنطقة قتال خطيرة ومنطقة عازلة. يبدو أننا لن نعود يوماً."

أما المزارع أحمد محمد عطا أبو جامع، وهو من سكان شرق خان يونس، فقد قدم إفادة كتابية موثقة بتاريخ 4/9/2025 قال فيها:
"كانت لدي أرض شرق خزاعة، على الحدود الشرقية لخان يونس. كنت أزرعها أنا وأولادي بمحاصيل موسمية، نأكل منها ونبيع ما يفيض في السوق المحلي، وكانت مصدر رزقنا الوحيد. بعد السابع من أكتوبر، وفي خضم حرب الإبادة التي نتعرض لها، قام الاحتلال بتجريف أرضي، وأطلق النار على والدي فاستشهد على الفور، كما استشهد أولادي جميعاً. صودرت أرضي ولم يعد بإمكاني الوصول إليها لأنها صارت ضمن المنطقة العازلة التي أنشأها الاحتلال. حياتي تدمرت بالكامل، فقدت والدي وأبنائي وأرضي، مصدر رزقي وكرامتي".

المحور الخامس: مسؤولية المجتمع الدولي تجاه حقوق السكن والملكية

يستغل الاحتلال الإسرائيلي فراغ العدالة الدولية لممارسة سياسة تطهير جغرافي ممنهج في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تهدف إلى القضاء على حقوق قانونية مكفولة بموجب القوانين والاتفاقيات والقرارات الدولية، وهو ما يشكل انتهاكاً صارخاً للحق في الملكية والسكن.

أي إجراءات لفرض "مناطق عازلة" داخل القطاع تفتقر إلى أي أساس قانوني مشروع، وتشكل خرقاً واضحاً للالتزامات الدولية، كما تمثل تهديداً مباشراً للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وعليه، يصبح توثيق هذه الممارسات أمراً ضرورياً لإدراجها ضمن سجل الانتهاكات، مع مطالبة الأمم المتحدة والهيئات الحقوقية الدولية بالتدخل العاجل لوقفها وضمان حماية الحقوق غير القابلة للتصرف للفلسطينيين.

في ضوء ما سبق، يتضح أن السياسات الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 قد أدت إلى انتهاك واسع للحقوق الأساسية للفلسطينيين، بما في ذلك الحق في الملكية والسكن، وأحدثت دماراً هائلاً في المنازل والأراضي الزراعية، وأجبرت آلاف الأسر على النزوح القسري. وتشير جميع المعطيات إلى أن هذه الإجراءات تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وتشكل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي وللحياة الكريمة للسكان. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحة لتدخل فوري من قبل المجتمع الدولي، من أجل حماية الحقوق غير القابلة للتصرف للفلسطينيين، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، وضمان تقديم الدعم القانوني والإنساني العاجل للمتضررين.

 التوصيات

  1. على السلطة الوطنية الفلسطينية بذل جهود عاجلة ومكثفة لوقف إطلاق النار فوراً وحماية المدنيين من الانتهاكات.
  2. على المجتمع الدولي فرض عقوبات فورية على إسرائيل لمخالفتها القرارات الدولية وتقاعسها عن تطبيق القانون الدولي الإنساني، والقيام بتحقيق مستقل في استهداف المزارعين والصيادين وما نتج عنه من قتلى وجرحى.
  3. التعاون مع المجتمع الدولي لإعادة بناء القطاع الزراعي وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتبقية بنسبة 5٪، وحماية المزارعين الذين يحاولون الحفاظ على ما تبقى من أراضيهم، وتمكينهم اقتصادياً.
  4. على المجتمع المحلي والمؤسسات الحقوقية توثيق هذه الانتهاكات ضمن سجلات رسمية، ومطالبة الأمم المتحدة والهيئات الحقوقية الدولية بالتدخل العاجل لوقفها.
  5. التحرك الفوري على المستوى الدولي للضغط لوقف سياسة المصادرة والتهجير القسري، وضمان توفير الحماية القانونية والإنسانية للسكان المتضررين.
  6. على السلطة الوطنية الفلسطينية تحمل مسؤوليتها القانونية والوطنية في تفعيل آليات القانون الدولي أمام المحكمة الجنائية الدولية لمساءلة مرتكبي الانتهاكات.

 المراجع والمصادر

  1. منظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة FA.
  2. اتحاد لجان العمل الزراعي.
  3. المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي.
  4.  افادة كتابية للمحامي محمد سامي الشياح موثقة بتاريخ 31/9/2025.
  5.  افادة موثقة للمحامية حسنة ابو سيدو بتاريخ 2/9/2023.
  6.  افادة شخصية موثقة   للسيد ابراهيم ابو احمد بمخيم المدينة بتاريخ 2/9/2025.
  7.  افادة كتابية للمزارع احمد محمد عطا ابو جامع موثقة له بتاريخ 4/9/2025.
  8. اتفاقية جنيف.
  9. العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  10. افادة كتابية موثقة للمهندسة الزراعية ايمان نوفل بتاريخ 7/9/2029.

  ناريمان زياد سلمان حلس

  محامية وناشطة حقوقية ، مهتمة بقضايا المراة والطفل والشباب من منظور حقوقي