الموقف القانوني لإخلاء السكان الفلسطينيين قسراً (اجتياح رفح نموذجاً)
يُعرف الأشخاص النازحون داخلياً، وفقاً للمبادئ التوجيهية الصادرة عن الأمم المتحدة بأنهم "الأشخاص أو جماعات الأشخاص الذين أكرهوا على الهرب، أو على ترك منازلهم، أو أماكن اقامتهم المعتادة، ولا سيما نتيحةً وسعياً لتفادي آثار نزاع مسلح، ... ولم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها للدولة"[1]، ويقتضي هذا التعريف توافر عنصرين مهمين، الأول هو النزوح القسري، والثاني هو أن يكون هذا النزوح داخل حدود الدولة، وبإسقاط هذا التعريف على حالة النزوح في قطاع غزة عموماً وفي رفح خصوصاً، نجد أنه ينطبق مما يعني وجوب تطبيق الأحكام الخاصة بالنازحين داخلياً.
القانون الدولي الانساني يحظر تشريد المدنيين
ان ما حدث في رفح ومن قبلها مدن قطاع غزة جميعها، ما كان ليحدث لو احترمت دولة الاحتلال الحد الأدنى من قواعد القانون الدولي الانساني، فإن القانون الدولي الانساني حظر تشريد السكان واجبارهم على النزوح، ولولا انتهاك دولة الاحتلال الصريح لقواعد الحماية المقررة للمدنيين أثناء سير العمليات العسكرية، لما اضطر السكان للنزوح عن أماكن سكناهم، وتتمثل هذه القواعد[2] بالآتي:
حظر توجيه الضربات الانتقامية للأعيان المدنية ولا للأفراد وممتلكاتهم، وقد نصت على ذلك صراحةً المادة "48" من البروتوكول الاضافي الأول حيث نصت على "تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية"، إلا أن دولة الاحتلال تعمدت الاضرار بالأعيان المدنية وممتلكات المدنيين، ويتضح ذلك مما تم رصده عبر الأقمار الصناعية للدمار الذي ألحقته آلة الحرب الاسرائيلية بمنازل المدنيين والأعيان المدنية في مدينة رفح[3]، علاوة على ما تم رصده بالعين وتم توثيقه بالكاميرا لما خلفته آلة الحرب الاسرائيلية في الأماكن التي انسحب الجيش منها في جميع مناطق الاجتياح البري في قطاع غزة، وعلاوة على ذلك فقد أدت ممارسات الاحتلال الغوغائية لقتل ما يزيد عن "41084" مدني بينهم "16673" طفل و"11269" امرأة[4]، ما يعني أن الاحتلال تعمد ارتكاب المجازر بالمدنيين تعمداً لا لبس فيه.
حظر استخدام سلاح التجويع للمدنيين، فإنه ووفقاً للمادة "54" من البروتوكول الاضافي الأول "يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها واشغال الري، اذا تحدد القصد فمن ذلك في منعها عن السكان المدنيين...، مهما كان الباعث سواء بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على النزوح أو لأي باعث آخر..."، فيما نصت المادة "23" من اتفاقية جنيف الرابعة والمواد "70+71" من البروتوكول الاضافي الأول على عدم اعاقة مرور امدادات الاغاثة[5]،إلا أن الاحتلال ومنذ اللحظة الاولى لحرب الإبادة مارس جميع أصناف التجويع والحصار على قطاع غزة، وتمثل ذلك بإغلاق جميع المعابر، وقطع مصادر الكهرباء والمياه، ومنع دخول أي مواد أو مساعدات على القطاع، فيما أطبق هذا الحصار باجتياح رفح والتي كانت بوابة قطاع غزة الوحيد على العالم، ما يعني أن الاحتلال استنفذ كل وسائل التجويع الممكنة كعقاب جماعي وكوسيلة قذرة لدفع الناس على النزوح، وليس أدل من ذلك ما حدث في شمال قطاع غزة من اطباق الحصار والتجويع الممنهج المستمر منذ عام كامل، فيما أعلن الجيش يوم (/9/2024) ايقاف قافلة تابعة للأمم المتحدة تحمل لقاح شلل الأطفال بادعاء وجود مسلحين بها، يأتِ ذلك في مسلسل طويل من تقويض عمل المؤسسات الدولية المعنية بالإغاثة.
حظر استخدامالمدنيين دروعاً بشرية، وقد جاء هذا الحظر صراحةً في المادة "51" من البروتوكول الاضافي الأول والتي نصت على "لا يجوز التوسل بوجود السكان المدنيين او تحركاتهم في حماية نقاط أو مناطق معينة ضد العمليات العسكرية أو تغطية ...، ولا يجوز أن يوجه أطراف النزاع تحركات السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين بقصد محاولة درء هجوم"، فيما أقدم الاحتلال على استخدام المدنيين كدروع بشرية مباشرة، في أفظع وأقذر الجرائم ضد الانسانية، وفي رفح حيث يُظهر تصوير قامت ببثه قناة الجزيرة قيام جنود الاحتلال بتثبيت كاميرا على أحد المدنيين وإنزاله لنفق[6]، فيما أظهر تصوير آخر في مستشفى ناصر ارسال قوات الاحتلال أحد المدنيين المعتقلين لديها إلى داخل المستشفى لإيصال رسالة للمحاصرين داخلها، فيما ثبت بعد ذلك إعدامه بمجرد عودته من الداخل[7].
حظر العقابالجماعي، فإنه ووفقاً للمواد (47-50) من لائحة اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907، والمادة "33" من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة "75" من البروتوكول الاضافي الأول لعام 1977، يحظر على أطراف النزاع ارتكاب العقوبات الجماعية بحق المدنيين، أو القيام بمصادرة أو تدمير أو نهب وسلب الممتلكات الخاصة بالمدنيين، كما نصت المادة "53" من اتفاقية جنيف الرابعة على "يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات بالدولة أو السلطات العامة أو المنظمات الاجتماعية، إلا إذا كانت الضرورة الأمنية تقتضي ذلك"، إلا أن المطلع ولو بالشكل البسيط على ممارسات الاحتلال الاسرائيلي في رفح خصوصاً وفي عموم قطاع غزة أثناء الاجتياحات البرية، يجد أن الاحتلال قد أخل بكل حرف من حروف القانون الدولي الانساني فيما يخص العقاب الجماعي، حيث أن الاحتلال مارس العقاب الجماعي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث يتضح من مفهوم "العقاب الجماعي" المذكور في القانون الدولي الانساني أنه لا يتوجب أن يشمل هذا العقاب كل المدنيين، بل يكفي لأن يكون العقاب جماعياً أن يشمل جماعة من الناس المدنيين، إلا أن الاحتلال وباجتياحه رفح والمدن الفلسطينية الأخرى مارس سياسية العقاب الجماعي بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى، ما يعني أن جميع السكان المدنيين في هذه البقعة الجغرافية قد تعرضوا ل للعقاب من دولة الاحتلال، إما بهدم منزلهم أو بتشريدهم أو بقتل أحد أفراد الأسرة أو بجميعهم جملةً واحدة، إلا أن الاحتلال يرتكب تلك الجرائم مستنداً على أمرين:
مساندة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقف حائلاً أمام أي مسائلة من أي جهة قانونية ، كما تقف حائلاً أمام استخدام أي طرف أي تهديد عسكري يمنع هذه الجرائم.
وجود الثغرات القانونية في مواد القانون الانساني، وتتمثل تلك الثغرات بالاستثناءات التي تحملها تلك المواد، فاستثناء كالوارد في نص المادة "53" من اتفاقية جنيف الرابعة كفيل بهدم المادة من أساسها، خصوصاً إذا اقترن ذلك مع كون أن مستغل هذا الاستثناء دولة اسرائيل بدعم اميريكي كامل، فيما يجدر الاشارة لأن مواد القانون الدولي الانساني حملت كماً كبيراً من الاستثناءات والتي تحمل معها امكانية الاختراق من قبل الدول القوية.
القواعد القانونية الحاكمة لنقل السكان قسرياً
لقد نصت القاعدة رقم (129)[8] على أنه: 1 ".لا يقوم الأطراف في نزاع مسلح دولي، بترحيل أو نقل السكان المدنيين قسراً بصورة آلية أو جزئية، من أرضِ محتلة، إلا إذا اقتضى ذلك أمن المدنيين المعنيين أو لأسباب قهرية .2لا يأمر الأطراف في نزاع مسلح غير دولي بنزوح السكان المدنيين، آلياً أو جزئيا لأسباب تتعلق بالنزاع، إلا إذا اقتضى ذلك أمن المدنيين المعنيين أو لأسباب عسكرية قهرية".
ويؤكد ميثاق المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في نورمبرغ على حظر ترحيل سكان الأراضي المحتلة لأماكن أخرى، ويعتبر النقل القسري للسكان، من الأعمال التي تشكل جريمة حرب دولية، حيث جاء في المادة السادسة فقرة (ب) من ميثاق المحكمة على "يشمل التعريف الخاص بجرائم الحرب ما يلي: القتل والمعاملة السيئة، والإبعاد ضد سكان منطقة محتلة أو فيها للعمل بالسخرة أو لأي قصد آخر..." آما يشمل تعريف "الجرائم ضد الإنسانية" الواردة في المادة السادسة، الفقرة (ج) من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية على ما يلي: "القتل والإبادة والاستعباد، والإبعاد وأعمال غير إنسانية أخرى تقترف ضد السكان المدنيين قبل أو أثناء الحرب"، وجاءت اتفاقية جنيف الرابعة لتؤكد على حظر ترحيل وإجلاء السكان المدنيين عن أماكن سكناهم، في النزاعات المسلحة الدولية، بموجب المادة (49) التي نصت على أنه "يحظر النقل الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو لأي أراضي دولة أخرى محتلة أو غير محتلة أياً كانت دواعيه".
إلا أننا أسلفنا أن مواد القانون الدولي الانساني حملت الكثير من الاستثناءات التي تمكن دولة الاحتلال من اختراق تلك المواد، وبالتالي تحقيق الضرر بالمدنيين العزل، ويظهر جلياً من المواد السابقة وجود استثناءات تحمل كلمات عامة من شأنها أن تمكن الاحتلال من الاضرار بالمدنيين استناداً لتلك الاستثناءات، والحقيقة أن ما حدث باجتياح رفح وسائر المدن الفلسطينية في قطاع غزة، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن دولة اسرائيل ضربت بعرض الحائط جميع حروف تلك المواد، ما جعل تلك المواد حبراً على ورق.
[1] دليل تدريبي على حماية المشردين داخليًا ، المركز الدولي لمراقبة التهجير IDMC"" .
[2] الكتيب الخاص بحماية السكان المدنيين في النزاعات المسلحة، مركز الميزان لحقوق الإنسان. [3] الصور الجوية التي تم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
[4] آخر تحديث للجهاز المركزي لإحصاء الفلسطيني بتاريخ (14/9/2024) حسب تحديثات وزارة الصحة الفلسطينية و (UN OCHA).
[5] النازحون "المشردون داخلياً" في القانون الدولي الانساني.
[8] القاعدة رقم ( 129 ) من الفصل الثامن و الثلاثون، الخاص بالتروح والأشخاص النازحون، قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي، المجلد الأول، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
محمود وفيق الشرقاوي
محامٍ وكاتب فلسطيني، هُجرت عائلته إلى قطاع غزة عام 1948 من مدينة يافا، باحث قانوني ضمن فريق المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي.