تعد الحرب على قطاع غزة واحدة من أعظم التحديات الإنسانية التي تواجه العالم، حيث تتغير ملامح الحياة اليومية بشكلٍ دراماتيكيٍ وسريع، ومن أبرز هذه التغييرات عمليات الإخلاء القسري كأحد المؤشرات الواضحة على التحولات المتسارعة في القطاع، فقد أصبحت خريطة الإخلاء أكثر تعقيدًا وإيلامًا خلال الحرب.
وبحسب اخر احصائيات النزوح منذ تجدد العدوان في مارس2025 فقد اضطُرّ أكثر 646.934 شخصاً للنزوح مرة أخرى، في حين أن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يقول أن 2 مليون فلسطيني نزحوا خلال الحرب، ما يعني أن 90% من سكان قطاع غزة اضطروا لمغادرة منازلهم بفعل القصف الجوي والاجتياحات البرية، هذا وفقاً لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، وتتعدد الأسباب التي تقف وراء أوامر الإخلاء التي يصدرها جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ تُنفَّذ هذه الأوامر غالبًا في سياق استهداف مناطق ذات أهميةٍ استراتيجية، وتفرض الأعمال الحربية مسارات للإخلاء، خاصة في المناطق الحدودية الحساسة، ما يدفع آلاف العائلات للنزوح القسري، دون بدائل آمنة.
يؤدي انفجار الأوضاع العسكرية وتبدل خارطة القتال على الأرض إلى تغييراتٍ جذريةٍ في خارطة التوزيع السكاني، فكثيرًا ما تُخلى مناطق بالكامل بسبب تصاعد القتال أو التهديدات المتوقعة، ما يزيد من تعقيد المشهد الإغاثي، ويصعّب جمع بياناتٍ دقيقةٍ عن أعداد النازحين وأماكن تواجدهم.
لم يعد العنوان في غزة مجرد "مكان إقامة"، بل بات يرتبط ارتباطًا مباشرًا بأزمة النزوح الداخلي، وأصبح مرهونًا بواقع الحرب وتقلّبات ظروف الميدان.
مسارات النزوح: من المفاجأة إلى الذروة
يُلاحَظ عند تتبع المسار الزمني لحركة السكان خلال الحرب، نمطٌ معقدٌ يرتبط بشكلٍ وثيقٍ بالتصعيد العسكري، سواء الجوي أو البري، إضافة إلى أوامر الإخلاء المتكررة.
بدأت موجات النزوح في المراحل الأولى من الحرب، وتحديدًا مع بدء العمليات العسكرية المكثفة في أكتوبر 2023، حيث فرّ نحو نصف مليون شخص من مدينة غزة وشمال قطاع غزة إلى جنوب ووسط القطاع نتيجة القصف المكثف، ومع توسّع العمليات في نوفمبر من ذات العام، وصلت موجة النزوح إلى ذروتها، إذ تجاوز عدد النازحين (1.2) مليون نسمة، ثم ما لبث أن تخطى حاجز (1.5) مليون نازحٍ مع استمرار القصف وتوسع رقعة الاجتياح البري.
ووفقا لآخر احصائيات صادرة عن جهات اممية تتبع مسارات النزوح الاخير انه نحو 1,6مليون نازح في مراكز إيواء مؤقته بينما يقيم أكثر من 600 ألف اخرين في خيام تفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، عدى عن الوضع الصحي المتدهور ووفقا لآخر ما صرحت بعه وزارة الصحة الفلسطينية بقطاع غزة، وكما جاء على لسان د. محمد أبو سلمية ان القطاع الصحي منهار وعاجز تماما بعد خروج 25 مستشفى من أصل 35عن الخدمة، فيما يعمل 51 مركزا صحيا من أصل 72مركزا مما يزيد من معاناة النازحين بالحصول على الرعاية الصحية.
ومع تصاعد النزاع، تحوّلت العديد من المنشآت، وعلى رأسها المدارس التابعة للأونروا والمدارس الحكومية، إلى مراكز إيواءٍ مؤقتةٍ لعشرات الآلاف من العائلات، وفي الحالات التي تعذر فيها إيجاد مأوى، اتجه بعض النازحين إلى الشواطئ أو إلى بيوت الأقارب، ما أدى إلى ازدحامٍ شديدٍ في المناطق الأقل استهدافًا أو تلك التي لم تتعرض لمناوراتٍ بريّة.
لم تكن الحياة داخل مراكز الإيواء سهلة؛ فقد تحولت الفصول الدراسية إلى غرفٍ مزدحمة، وضاقت الممرات بالعائلات، وغابت الخدمات الأساسية مثل الطعام والمياه والرعاية الصحية، وبقي الخطر محدقًا داخل هذه الماوي، حيث سُجلت حالات استهدافٍ متكررة.
ام نبيل وهي نازحه من حي الزيتون تقول "نزحنا 10 مرات خلال أربع شهور وفي كل مره كنا نظن ان المكان امن ثم نجد أنفسنا تحت خطر جديد اشعر انني أعيش بلا عنوان منذ شهور" فيما تقول أم خالد وهي نازحة من شمال قطاع غزة "في البداية، لجأتُ مع أولادي إلى منزل شقيقي في منطقة الصفطاوي، لكن مع تصاعد القصف، اضطررنا إلى النزوح نحو مدرسة الدحيان في الشيخ رضوان"، وتضيف: "نعيش اليوم وعددنا 12 شخصًا في فصلٍ دراسيٍ ضيق، ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء، الحياة أصبحت مستحيلة".
تحمّلت النساء عبئًا مضاعفًا، إذ اضطررن لرعاية الأطفال، وتأمين الاحتياجات الأساسية، في بيئةٍ تعاني من الانهيار الكامل، أما الأطفال، فقد خسروا مدارسهم التي تحوّلت إلى مراكز إيواء، وعاشوا تجربة من القلق والخوف وغياب التعليم، ما خلف آثارًا نفسيةً خطيرة للغاية.
الشاب سامي من بيت لاهيا يروي للمرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي أنهم اضطروا لإقامة زفاف أخيه في خيمة صغيرة بلا كهرباء، ودون تحضير أي طعام للضيوف، أما أبو يوسف النازح من الشجاعية فيقول من مكان لجوئه على شاطئ البحر خانيونس "دُمّر منزلي بالكامل، فانتقلت إلى الشاطئ، لكن الوضع هناك أصعب بكثير من المدارس، لا ماء، لا طعام، ولا أدنى مستوى من الأمان".
في ظل هذا الوضع، لجأ كثيرون إلى الخيام المنصوبة في الساحات العامة والحدائق، ما أثر سلبًا على الخصوصية والكرامة الإنسانية، فقد جُرِّد الناس من أبسط مقومات الحياة، وسط خيامٍ ضيقةٍ ومفتوحةٍ على كل أنواع المعاناة، من غياب النظافة، إلى تفشي الأمراض، مرورًا بانعدام الرعاية الصحية.
البعد القانوني: الإخلاء القسري في مرمى الانتهاك
يؤكد بكر التركماني، منسق التحقيقات والشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان أن الحق في السكن والتنقل هو من جوهر الكرامة الإنسانية، لكنه بات في غزة حلمًا بعيد المنال بفعل الأعمال العسكرية المتواصلة، ويقول: "الإخلاء القسري دون إنذارٍ مسبق، أو دون توفير ممراتٍ آمنةٍ ومأوى بديل، يعد من أخطر الانتهاكات"، ويضيف: "ما يحدث في غزة لا يفي بأدنى الشروط التي يفرضها القانون الدولي الإنساني".
وبحسب التركماني، تتحمل سلطة الاحتلال المسؤولية القانونية الكاملة عن سلامة المدنيين الذين تطلب منهم المغادرة، وتشمل هذه المسؤولية تأمين الخدمات الأساسية، ومنع استهدافهم، وتقديم الحماية خلال تنقلهم، لكن الواقع في غزة عكس ذلك تمامًا.
ورغم قساوة المشهد، تبقى أبواب المساءلة مفتوحة أمام الجرائم المرتكبة، ومنها الإخلاء القسري، حيث تشكل هذه الانتهاكات أساسًا قانونيًا للملاحقة أمام المحاكم الدولية المختصة.
النزوح يعيد تشكيل وجه غزة
يعلم الجميع اليوم بوجود آثارٍ كبيرةٍ على ديموغرافيا قطاع غزة نتيجة النزوح، وحدثت تداعيات كثيرة سببها الواقع الجديد في ظل تجاور خيام النازحين واكتظاظهم في المخيمات ومراكز الإيواء.
جرت آلاف حالات المصاهرة بين عائلات جمعتها خيام النزوح، وقد يقرر أرباب الأسر الاستقرار في أقرب تجمعٍ بشريٍ يجري إعماره، واختار المقتدرون ماديًا أن يبحثوا لأبنائهم المتزوجين حديثًا شققًا سكنيةً في أحياء وبناياتٍ لم تتعرض للقصف خلال الحرب، وهذا يعني انزياح في أعداد السكان في كل محافظة تبعًا لهذه التغيرات.
سيبحث سكان المناطق الحدودية (شرق وشمال القطاع) عن أماكن للسكن تكون بعيدةً عن المخاطر التي ارتبطت بالأحداث التي جرت أو يمكن أن تجري على الحدود، وهو أمرٌ سيترتب عليه تغييراتٍ جوهريةٍ في طبيعة توزيع السكان على الأرض، وقد يكون ذلك مؤقتًا إذا ما انتهت الحرب لصالح تسوية سياسية طويلة الأمد، وربما يصبحُ دائمًا إذا ما جرى الاتفاق على هُدنةٍ أو مجموعة هُدَن دون ضماناتٍ لانتهاء الحرب.
يقول د. عماد محسن الإعلامي والباحث في الشؤون السياسية: "أقرب السيناريوهات المبنية على نتائج هذه الحرب هو أن مساحة العمران في قطاع قد تقلصت، وبينما اختفت بنايات أحياء بأكملها أو محافظاتٍ كاملةٍ بفعل التدمير الممنهج الذي نفذته الفرق الهندسية في جيش الاحتلال؛ فإن أحياء أخرى بقيت في وضعٍ يسمح باستقرارٍ مجتمعي، وهذا سيقود حتمًا إلى تغييراتٍ جوهريةٍ في ديموغرافيا المحافظات والقطاع عمومًا".
ويوضح محسن أن آليات إعادة الإعمار والطريقة التي سيتم بها بناء المجتمع العمراني في غزة ستقرر بدرجةٍ كبيرةٍ الوافع الديموغرافي في مرحلة ما بعد الحرب، وكذلك فإن سرعة عودة الحياة إلى بعض المناطق في القطاع من حيث توفر البنى التحتية والخدمات الأساسية سيحدد مسألة بقاء الناس في مناطقهم الأصلية أو انتقالهم إلى أماكن أخرى.
الحنين إلى الحي والبيت والجيران
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، لا يُمثل الحي مجرد مكان سكن، بل هو امتداد للذاكرة الشخصية والجماعية، حيث علاقات الجيرة والمشاركة اليومية، غير أن الدمار الواسع جعل من هذه الذاكرة شيئًا مهددًا بالفقد، تقول الحاجة ام أسامة: “كانت جارتنا ام إيهاب تحضر لنا القهوة كل صباح لا اعلم ان كانت ما زالت على قيد الحياة " البيت لم يكن فقط جدرانا بل حكايات وعلاقات، فيما تروي لنا سارة ذات ال16 عاماً قائل "كل مرة ننتقل فيها اشعر كأنه جزءا من هويتي يقتلع المنزل ليس فقط مجرد مكان للنوم بل هو مكان تعلمت ولعبة وتركت فيه ضحكاتي وحزني".
الأحياء والحارات تحمل لأصحابها الشعور بالأمان، فهذا أبو محمد يحدثنا بصوت مكسور عن أن النزوح المتكرر جعله يفقد الشعور بالأمان والاستقرار، فيما تقول أم يامن أن بيتهم كان ملاذا، لكنه الآن تدمر، وبفقده فقدنا جزءً من ذواتنا، حتى الجيران الذين كنا نراهم كل يوم، لم نعد كذلك وأصبحوا بعيدين،
في ظل هذا الواقع، يرى الفلسطيني أن إعادة الإعمار أكثر من مجرد ترميمٍ للمنازل والبنى التحتية، بل ينبغي أن تكون مشروعًا لإعادة بناء العلاقات الإنسانية التي دُمرت بالحرب، فالمكان لا يستعيد معناه إلا إذا عادت إليه ذاكرته الجمعية.
من هنا، تظهر الحاجة لمبادرات توثيقٍ واسعة، تشمل تسجيل الشهادات، وتدوين القصص، وإنشاء مراكز أرشفةٍ تحفظ الذاكرة الفلسطينية من الاندثار، وتعيد للناس الإحساس بانتمائهم إلى هذا المكان، رغم كل ما أصابه من خراب.
أعمل في إذاعة زمن بإعداد وتقديم البرامج وتنسيقها، وأكتب سيناريوهات أفلام موشن جرافيك. أركز على قضايا النساء والبودكاست وأناقش مواضيع قانونية واجتماعية وشبابية. أكتب الإعلانات والسبوتات، وشاركت متطوعة