عربيعربي
واقع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة

واقع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة

يعتبر النزوح القسري من أكثر التحديات الإنسانية المعقدة التي تواجه المجتمعات المتأثرة بالنزاعات المسلحة، حيث يتسبب في تشريد الآلاف من السكان عن منازلهم وأراضيهم وسبل عيشهم. وفي الحالة الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة، تتفاقم هذه المأساة بشكل مضاعف نتيجة لعوامل متعددة تتضمن الحصار المفروض، والظروف الاقتصادية الصعبة، والكثافة السكانية العالية، والنزاعات المتكررة.

في السياق التاريخي، يعد قطاع غزة أحد أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، حيث يعيش ما يزيد عن مليوني نسمة في مساحة جغرافية محدودة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا. ويعتبر ما يقارب 70% من سكان القطاع من اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من أراضيهم الأصلية عام 1948. وقد شهد القطاع على مدار العقود الماضية العديد من موجات النزوح الداخلي نتيجة للعمليات العسكرية المتكررة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وزيادة الضغط على البنية التحتية المتهالكة أصلاً.

تتناول هذه الورقة البحثية واقع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة، مع التركيز بشكل خاص على التحديات التي تواجهها هذه المراكز في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة. كما تسلط الضوء على المعايير الدولية لمراكز الإيواء ومدى تطبيقها في حالة قطاع غزة، إضافة إلى تحليل الانتهاكات التي يتعرض لها النازحون داخل هذه المراكز، وصولاً إلى تقديم توصيات عملية لتحسين ظروف الإيواء وضمان حماية حقوق النازحين.

تكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها توثق واقعاً إنسانياً صعباً يعيشه مئات الآلاف من الفلسطينيين في ظروف استثنائية، وتسعى إلى تقديم فهم أعمق للتحديات التي تواجه إدارة مراكز الإيواء في ظل محدودية الموارد وتصاعد الاحتياجات. كما تأتي أهمية البحث في سياق تزايد الاهتمام الدولي بقضايا النزوح الداخلي وحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة، والحاجة إلى تطوير آليات استجابة فعالة تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية.

تعتمد منهجية البحث على تحليل البيانات والتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية والمحلية العاملة في المجال الإنساني، بالإضافة إلى الدراسات والأبحاث الأكاديمية ذات الصلة. كما تستند الورقة إلى توثيق الشهادات والتجارب الميدانية للنازحين والعاملين في مراكز الإيواء، مما يتيح فهماً أعمق للواقع المعاش وتحدياته.

تنقسم الورقة البحثية إلى أربعة أقسام رئيسية: يتناول القسم الأول واقع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة من حيث أعدادها وتوزيعها الجغرافي والخدمات التي تقدمها والتحديات التي تواجهها. أما القسم الثاني فيستعرض المعايير الدولية والممارسات الفضلى في إدارة مراكز الإيواء ومدى تطبيقها في سياق قطاع غزة. ويركز القسم الثالث على توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها النازحون داخل مراكز الإيواء وتأثيرها على الأوضاع الإنسانية والنفسية. وأخيراً، يقدم القسم الرابع مجموعة من التوصيات العملية لتحسين إدارة مراكز الإيواء وضمان حماية حقوق النازحين.

واقع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة

التطور التاريخي لأزمة النزوح في قطاع غزة

شهد قطاع غزة على مدار تاريخه الحديث موجات متعددة من النزوح، بدأت مع النكبة عام 1948 حين تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى القطاع بعد تهجيرهم من مدنهم وقراهم الأصلية. ومنذ ذلك الوقت، أصبح النزوح ظاهرة متكررة في حياة سكان غزة نتيجة للنزاعات المسلحة المتتالية والعمليات العسكرية. فعلى سبيل المثال، شهدت الفترة بين عامي ( 2008 إلى 2024 ) عدة موجات كبيرة من النزوح الداخلي، خاصة خلال العمليات العسكرية الكبرى في أعوام (2008، 2009، 2012، 2014، وما بعدها.

في كل مرة، كان السكان يضطرون لترك منازلهم بحثاً عن الأمان، ليجدوا أنفسهم يتنقلون بين مراكز الإيواء المؤقتة التي تنشأ بشكل طارئ لاستيعاب أعداد النازحين المتزايدة. وقد أدت هذه الحالة من النزوح المتكرر إلى تراكم الخبرات المؤسسية في إدارة أزمات النزوح، لكنها في الوقت نفسه أدت إلى استنزاف الموارد المحدودة وإرهاق القدرات المؤسسية، خاصة في ظل الحصار المفروض على القطاع منذ عام 2007.

مع تصاعد حدة العنف وتكرار موجات النزوح، تحولت مراكز الإيواء المؤقتة إلى ظاهرة شبه دائمة في المشهد الإنساني في غزة، حيث يتم تخصيص المدارس والمساجد والمراكز المجتمعية لاستيعاب النازحين خلال فترات التصعيد. وفي كثير من الأحيان، تستمر إقامة النازحين في هذه المراكز لفترات طويلة بعد انتهاء العمليات العسكرية بسبب تدمير منازلهم أو عدم إمكانية العودة إلى مناطقهم الأصلية لأسباب أمنية.

أنواع مراكز الإيواء وتوزيعها الجغرافي

قطاع غزة بالأصل منطقة ذات بنية تحتية سيئة، وقد ساهمت العمليات العسكرية المتتابعة في تدني مستوى البنية التحتية والمباني الخدماتية بشكل أكبر، فيما افتقد قطاع غزة رغم حاجته بشكل كامل لوجود مراكز ايواء منظمة، علاوة على عدم توافر الخدمات الأساسية في المناطق الفارغة المتوقع انشاء مخيمات للإيواء فيها في حالات الطوارئ، ووفقاً لهذه الحقيقة تتنوع مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة من حيث طبيعتها وتوزيعها الجغرافي، ويمكن تصنيفها إلى عدة فئات رئيسية:

  1. المدارس:  تشكل مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والمدارس الحكومية النسبة الأكبر من مراكز الإيواء في قطاع غزة، نظراً لتوفرها في معظم المناطق السكنية وملاءمة بنيتها التحتية لاستيعاب أعداد كبيرة من النازحين. وتتركز هذه المدارس بشكل خاص في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية مثل مخيمات اللاجئين والمناطق الحضرية في مدينة غزة وخان يونس ورفح، ووفقًا للتقارير الصادر عن الأونروا فقد نزح ما يصل إلى (1.9) مليون فلسطيني في قطاع غزة أي ما يمثل أكثر من (85%) من سكان القطاع، حيث اضطر بعضهم للنزوح عدة مرات بسبب تكرار عمليات القصف والتدمير (unrwa.org) ، حيث أشارت الإحصائيات الصادرة عن الأونروا أيضاً (unrwa.org) إلى أنه قد لجأ نحو (1.4) مليون نازح إلى (154) منشأة تابعة للأونروا بمختلف أنواعها من مدارس ومراكز تدريب مهنية ومقرات رسمية في جميع أنحاء قطاع غزة.
  2. دور العبادة والمراكز المجتمعية : تلعب دور العبادة دوراً هاماً في إيواء النازحين، خاصة في الفترات الأولى من النزوح حيث تكون الاستجابة المؤسسية غير مكتملة، ووفقاً لشهادات للمرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي فإن عدداً من العائلات نزحت داخل المساجد في بداية النزوح قبل انشاء المخيمات، كما لجأت الطائفة المسيحية في قطاع غزة الى الكنيسة منذ بداية الحرب حتى نهايته. كما تستخدم المراكز المجتمعية التابعة للمؤسسات الأهلية والجمعيات الخيرية لإيواء أعداد محدودة من النازحين.
  3. المخيمات المؤقتة:  في حالات النزوح الواسعة النطاق، يتم إنشاء مخيمات مؤقتة في المناطق المفتوحة مثل الملاعب والساحات العامة، وتتكون هذه المخيمات عادة من خيام أو هياكل مؤقتة لا توفر الحماية الكافية من العوامل الجوية.
  4. المستشفيات والمراكز الصحية : في بعض الحالات، تستخدم ساحات المستشفيات والمراكز الصحية لإيواء النازحين، خاصة العائلات التي لديها مرضى أو جرحى يحتاجون إلى رعاية طبية مستمرة، فيما شهدت الحرب على قطاع غزة تكدس النازحين داخل المستشفيات والمراكز الصحية، فيما شهدت تلك المراكز العديد من حالات القصف المباشر والاقتحام، فيما شهدت بعض المستشفيات وعلى رأسها مجمع الشفاء الطبي علميات عسكرية واسعة وأحداث دموية غير مسبوقة.
  5. بيوت الأقارب والعائلات المضيفة:  على الرغم من أنها لا تصنف رسمياً كمراكز إيواء، إلا أن بيوت الأقارب والعائلات المضيفة تستوعب نسبة كبيرة من النازحين، خاصة في المراحل الأولى من النزوح، مما يؤدي إلى اكتظاظ شديد في هذه المنازل ويضع ضغطاً إضافياً على البنية التحتية المحدودة.

من حيث التوزيع الجغرافي، فعلى مدار سنوات التصعيد المتعاقبة، كانت مناطق غرب مدن قطاع غزة هي مناطق مستقبلة للنازحين، في  حين كانت المناطق الشرقية مناطق نزوح واخلاء، أثناء حرب الابادة عام (2023-2024) توسعت عمليات الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة ضمن خطط جديدة وواسعة، كانت مناطق شمال وادي غزة خصوصاً والمتمثلة بمدينة غزة ومدن شمال قطاع غزة هي مناطق اخلاء وعمليات عسكرية بشكل مستمر، فيما صنف الاحتلال الاسرائيلي منطقة مواصي خانيونس كمنطقة خدمات انسانية، وعلى إثر ذلك تركزت مراكز الإيواء في المناطق الوسطى والجنوبية من قطاع غزة، خاصة في أوقات التصعيد العسكري، حيث اضطر سكان المناطق الشمالية من قطاع فغزة والشرقية من جميع المدن (الأقرب إلى الحدود) للنزوح باتجاه المناطق الوسطى والجنوبية بحثاً عن الأمان. وشهدت محافظات دير البلح وخان يونس ورفح تركزاً أكبر لمراكز الإيواء، في حين تحولت بعض المناطق في مدينة غزة إلى مناطق طاردة للسكان خلال فترات التصعيد العسكري.

واقع الخدمات الأساسية في مراكز الإيواء

تعاني مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة من تحديات جمة في توفير الخدمات الأساسية للنازحين، ويمكن تلخيص واقع هذه الخدمات على النحو التالي:

المأوى والإسكان:

تعاني معظم مراكز الإيواء من الاكتظاظ الشديد، حيث تستضيف أعداداً تفوق قدرتها الاستيعابية بأضعاف. على سبيل المثال، قد تأوي الفصول الدراسية في المدارس المستخدمة كمراكز إيواء ما بين 40-60 شخصاً، في مساحة مصممة أصلاً لاستيعاب 30-35 طالباً. وفي كثير من الحالات، تفتقر الأماكن المخصصة للنوم إلى الخصوصية الكافية، حيث تضطر العائلات للإقامة في مساحات مفتوحة مع وجود فواصل بدائية في أحسن الأحوال، يقول أحد النازحين "نحن نعيش في مدرسة تابعة للأونروا، حيث نشارك في فصول دراسية مع عائلات أخرى. لا يوجد مكان للنوم أو أي من خصوصياتنا. الوضع غير محتمل." 

أما في المخيمات المؤقتة، فغالباً ما تكون الخيام غير مؤهلة للحماية من الظروف الجوية القاسية، خاصة في فصل الشتاء حيث تتسرب مياه الأمطار إلى داخل الخيام، وفي فصل الصيف حيث ترتفع درجات الحرارة بشكل كبير داخل الخيام غير المعزولة.

المياه والصرف الصحي:

يعد نقص المياه الصالحة للشرب من أكثر التحديات إلحاحاً في مراكز الإيواء، حيث تعتمد هذه المراكز على صهاريج المياه التي لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين. وفي كثير من الحالات، تكون نوعية المياه المتوفرة رديئة وغير صالحة للشرب، مما يضطر النازحين إلى شراء مياه الشرب المعبأة بأسعار مرتفعة، أو الاعتماد على المساعدات الإنسانية، وفي ذلك يؤكد أحد النازحين للمرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي " المياه التي نشربها في المخيم ليست صالحة، ومع ذلك نضطر لشربها لأننا لا نجد بديلًا. لدينا العديد من الحالات المرضية بسبب ذلك."

كما تعاني مرافق الصرف الصحي من ضغط شديد بسبب الاستخدام المكثف، مما يؤدي إلى تعطلها المتكرر وانتشار الروائح الكريهة والحشرات. وتشير التقارير إلى أن نسبة دورات المياه إلى عدد النازحين في معظم مراكز الإيواء تقل كثيراً عن المعايير الدولية، حيث قد تصل إلى دورة مياه واحدة لكل 70-100 شخص، في حين أن المعايير الدولية توصي بدورة مياه واحدة لكل 20 شخصاً كحد أقصى، وقد أشارت التقارير والإحصائيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن مخيمات النزوح تفتقر إلى الغذاء، المياه الصالحة للشرب، والخدمات الصحية الأساسية مما تسبب في تفشي الأمراض وسوء التغذية

الغذاء والتغذية:

تعتمد مراكز الإيواء بشكل أساسي على المساعدات الغذائية المقدمة من المنظمات الدولية والمحلية، والتي غالباً ما تكون غير منتظمة وغير كافية. وتتكون الوجبات الغذائية في معظم الأحيان من المواد الأساسية مثل الأرز والبقوليات والزيت والسكر، مع نقص حاد في المنتجات الطازجة والبروتينات، مما يؤدي إلى سوء التغذية خاصة بين الأطفال والنساء الحوامل، يقول هشام عيسى (39 عامًا)، وهو أب لأربع بنات نازح يقيم في أحد المخيمات بمواصي خان يونس "كل يوم ننتظر المساعدات، لكن القوائم لا تشمل الجميع مرات كثيرة وقفنا في الطابور لساعات تحت الشمس الحارقة، لنكتشف في النهاية أنه لا دور لنا اليوم، أطفالي ينامون جوعى، ونحن لا نملك شيئًا لنقدمه لهم".

كما أن آليات توزيع الغذاء غالباً ما تكون غير منظمة وغير عادلة، مما يؤدي إلى حرمان بعض العائلات من حصصها الغذائية أو تأخرها. وفي بعض الحالات، تضطر العائلات لشراء احتياجاتها الغذائية من الأسواق المحلية بأسعار مرتفعة بسبب عدم انتظام المساعدات، حيث أنه وفقاً لإحصائيات برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من 60% من السكان يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد (برنامج الأغذية العالمي - WFP)، وبحسب الاحصائيات الصادرة عن اليونيسيف تشير الى أن طفل واحد يموت كل 10 دقائق بسبب الجوع وسوء التغذية.

الرعاية الصحية:

تفتقر معظم مراكز الإيواء إلى الخدمات الصحية الكافية، حيث لا يتوفر في كثير منها سوى نقاط إسعافية أولية تفتقر إلى المعدات والأدوية الأساسية. أما الحالات المرضية التي تحتاج إلى رعاية متخصصة، فيتم تحويلها إلى المراكز الصحية والمستشفيات التي تعاني أصلاً من نقص حاد في الموارد والكوادر الطبية والأدوية،.

وتزداد المشكلة تعقيداً مع انتشار الأمراض المعدية بين النازحين بسبب الاكتظاظ وسوء الأحوال الصحية، خاصة الأمراض الجلدية والتنفسية والمعوية. كما أن الفئات الهشة مثل كبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة والمرضى المزمنين غالباً ما يواجهون صعوبات إضافية في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، فوفقًا لإحصائية منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن 70% من المستشفيات في غزة خرجت عن الخدمة بسبب القصف المباشر ونقص الوقود اللازم لتشغيلها. 

كما ان مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أكد أن أكثر من 50,000 نازح يعانون من أمراض مزمنة لا يتلقون العلاج المناسب بسبب انهيار النظام الصحي، كما ان مخيمات النزوح تفتقر إلى الرعاية الطبية الأساسية، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض بين النازحين مثل التسمم الغذائي والإسهال بسبب نقص النظافة والمواد الغذائية نتيجة اغلاق المعابر وعدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية للقطاع.

التعليم:

تتأثر العملية التعليمية بشكل كبير في أوقات النزوح، خاصة مع استخدام المدارس كمراكز إيواء، مما يؤدي إلى تعطيل الدراسة لفترات طويلة. وحتى في حالات استئناف العملية التعليمية، فإنها تتم في ظروف غير ملائمة، مع اكتظاظ الفصول الدراسية وقلة الموارد التعليمية، إلا أنه ومن الجدير بالذكر أنه ومنذ بدء حرب الإبادة، انتهج الاحتلال الإسرائيلي سياسة التدمير، فلم يستثنِ الجامعات والمدارس من الاستهدافات المباشرة. تعرضت حوالي 88% من مدارس القطاع للقصف المباشر، ودُمّرت 61% منها كليًا أو أصيبت بأضرار جسيمة، في حين تحوّلت معظم المنشآت التعليمية المتبقية إلى مراكز إيواء للنازحين، لتصبح غير صالحة للعملية التعليمية. هذا الدمار الواسع أدى إلى تعطيل المسيرة الدراسية لأكثر من 625 ألف طالب فلسطيني، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

كما أن الأطفال النازحين يعانون من صعوبات في التكيف مع البيئة التعليمية الجديدة، خاصة مع الضغوط النفسية الناتجة عن تجربة النزوح والعنف، مما يؤثر سلباً على تحصيلهم الدراسي وتطورهم المعرفي، ففي بداية العام الدراسي، كان يُفترض بأكثر من 600 ألف طالب مدرسي أن يلتحقوا بالعام الدراسي في قطاع غزة، منهم حوالي 60 ألفًا من طلبة المرحلة الثانوية، إضافة إلى 87 ألف طالب جامعة وكلية. لكنهم حرموا من العام الدراسي. تعطلت المسيرة التعليمية منذ السابع من أكتوبر 2023، وتحوّل الطلبة بالإضافة إلى الكوادر التعليمية إلى نازحين في مراكز الإيواء، يعملون على جمع الخشب والنايلون ويبحثون عن مياه الشرب. يقفون في طوابير الخبز والتكايا، يصارعون من أجل البقاء، إضافةً إلى تكرار عمليات النزوح من مكان إلى آخر، وتعرضهم لاستهدافات مباشرة في مراكز الإيواء.

الحماية والأمن:

تعاني مراكز الإيواء من نقص في إجراءات الحماية والأمن، خاصة للفئات الهشة مثل النساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة. وتشير التقارير إلى حالات متعددة من العنف والتحرش داخل مراكز الإيواء، خاصة مع غياب الخصوصية وضعف الإضاءة في المرافق العامة.

كما أن هذه المراكز غالباً ما تفتقر إلى خطط طوارئ واضحة في حال اضطرار النازحين للإخلاء مرة أخرى، أو في حالات الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات. يقول محمد الجعبري (40 عامًا)، وهو أب لثلاث أطفال، عن معاناته في النزوح: "لم أكن أتخيل يومًا أن يصبح سقف بيتي قطعة قماش ممزقة، وأن أدفع أموالًا بالكاد احصل عليها وخاصة انني فقدت مصدر رزقي كي أضع خيمة على أرض ليست ملكي وعندما تمطر يتسرب الماء إلينا من جميع النواحي حتى اننا أصبحنا نكره المطر والشتاء الذي كنا نحبه قبل الحرب، وأصبح لدينا كابوس جديد يُعرف باسم (موجة شتاء او رياح) لأننا نعيش أسوأ أيام الرعب الحقيقي عند هبوب الرياح خشية أن تسقط الخيمة فوق رؤوسنا". وفي بعض الحالات، تعرضت مراكز الإيواء نفسها للقصف أو الاستهداف العسكري، مما أدى إلى سقوط ضحايا بين النازحين وإثارة حالة من الذعر والخوف المستمر، حيث تُظهر الشهادات الحية من النازحين حجم المعاناة التي يتعرضون لها نتيجة لهذه الهجمات ووفقاً لعمليات الرصد والتوثيق الصادرة عن مركز الميزان لحقوق الانسان، فقد شنت قوات الاحتلال (41) هجوماً برياً وجوياً وبحرياً، استهدفت خلالها خيام النازحين في المناطق التي أعلنتها سلطات الاحتلال كمنطقة إنسانية، وقد تسببت هذه الهجمات في استشهاد (355) فلسطينياً، من بينهم (36) سيدة و(45) طفلاً، واصابة أكثر من (743) من النازحين بجراح مختلفة. 

التحديات الرئيسية التي تواجه مراكز الإيواء

تواجه مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة مجموعة معقدة من التحديات التي تؤثر على قدرتها على توفير الخدمات الأساسية وتلبية احتياجات النازحين بشكل كاف. ويمكن تصنيف هذه التحديات إلى عدة محاور رئيسية:

التحديات اللوجستية والتشغيلية:

  1. عدم كفاية المساحات المخصصة للإيواء:  تعاني مراكز الإيواء في قطاع غزة من محدودية المساحة المتاحة مقارنة بالأعداد الكبيرة للنازحين، مما يؤدي إلى الاكتظاظ الشديد وعدم القدرة على توفير الخصوصية والراحة الأساسية للنازحين، يقول الحاج ابراهيم عيسى (56 عامًا)، وهو أحد النازحين في مخيم عشوائي في منطقة مواصي خان يونس "المخيمات هنا لا تصلح للحياة نحن نتكدس في مساحة صغيرة، لا مياه نظيفة، ولا خدمات صحية، ولا حتى إضاءة ليلية وعندما تمطر، تتحول الأرض إلى مستنقع من الطين والمياه الراكدة".
  2. ضعف البنية التحتية:  معظم المباني المستخدمة كمراكز إيواء غير مصممة أصلاً لهذا الغرض، مما يجعلها غير ملائمة لاستيعاب أعداد كبيرة من النازحين لفترات طويلة. كما أن البنية التحتية المتهالكة تعاني من مشاكل في شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي.
  3. نقص الموارد اللوجستية:  هناك نقص حاد في المعدات والمستلزمات الأساسية مثل الفرشات والبطانيات والمواد الغذائية والمياه الصالحة للشرب والأدوية، مما يؤثر على قدرة المراكز على تلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين، فإن القيود التي فُرضت على دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة أدت إلى تفاقم معاناة النازحين وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أدت محدودية دخول مواد الإيواء إلى إمكانية مساعدة 285,000 شخص فقط بين سبتمبر ونوفمبر 2024، بينما يحتاج ما لا يقل عن 945,000 آخرين إلى دعم عاجل في فصل الشتاء.
  4. صعوبات في الوصول والإمداد:  غالباً ما تواجه المنظمات الإنسانية صعوبات في إيصال المساعدات إلى مراكز الإيواء بسبب القيود المفروضة على الحركة والإغلاقات المتكررة للمعابر وتدهور الوضع الأمني، مما يؤدي إلى تأخر وصول المساعدات أو عدم انتظامها.

المعايير الدولية لمخيمات النزوح

متطلبات السلامة والأمن في المخيمات

وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، يجب أن تضمن مخيمات النزوح بيئة آمنة للنازحين، بحيث لا يتعرضون فيها للعنف أو الاستغلال أو الهجمات العسكرية. كما تنص المعايير الدولية على ضرورة عدم استخدام المخيمات لأغراض عسكرية أو تحويلها إلى أهداف في النزاع.

المعايير الدنيا في الغذاء، الماء، الصحة، والسكن

تُعاني مخيمات النزوح من نقص حاد جداً في الغذاء، حيث يعتمد النازحون على المساعدات الإنسانية التي تُقدّر بالكاد لتغطية احتياجاتهم اليومية إضافةً إلى أن المياه النظيفة الصالحة للشرب شحيحة جداً فيها وليس الجميع بإمكانه الحصول عليها كون أن محطات تحلية المياه غير كافية أو تكاد تكون منعدمة مقارنة بين عدد المحطات وعدد النازحين لذلك يُجبر النازحون على شرب مياه ملوثة مما يهدد صحتهم ويساهم في انتشار الأمراض وبحسب الإحصائيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) فإن 95% من المياه في غزة غير صالحة للشرب بسبب القصف وتعطل محطات التحلية  ،علاوة على ذلك فإن هذه المخيمات ايضاً لا تتوفر شبكات صرف صحي بل أن اعتمادها الأساسي على الحفر الامتصاصية التي تتسبب بأضرار خطيرة على صحة النازحين وهناك عدة معايير تُعرف بمعايير “أسفير” الإنسانية التي حددت الحد الأدنى من الخدمات التي يجب توفيرها في مخيمات النزوح، وتشمل:

  1. الغذاء: يجب أن يحصل كل فرد على 2100 سعرة حرارية يوميًا على الأقل لتجنب سوء التغذية.
  2. الماء: الحد الأدنى للمياه الصالحة للشرب هو 15 لترًا لكل شخص يوميًا.
  3. الصحة: يجب أن يكون هناك مركز صحي لكل 10,000 نازح، مع توفير الأدوية والعلاجات الأساسية.
  4. السكن: يجب ألا تزيد الكثافة السكانية في المخيمات عن 3.5 متر مربع لكل شخص لضمان الحد الأدنى من المساحة المعيشية

المسؤولية القانونية والمحاسبة الدولية

إن ما يعانيه النازحين في قطاع غزة من انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية يفرض تساؤلات جدية حول المسؤولية القانونية والمحاسبة الدولية فوفقًا للقانون الدولي الإنساني تتحمل أطراف النزاع مسؤولية حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق كما تنص اتفاقيات جنيف على ضرورة توفير المأوى الآمن، الرعاية الصحية، والغذاء الكافي للنازحين، بينما تُلزم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان الدول والمنظمات بضمان عدم تعرض أي فرد للمعاملة اللاإنسانية أو العقاب الجماعي.

ومع ذلك، يواجه النازحين في غزة ظروفًا مأساوية تضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لالتزامه بتطبيق هذه القوانين ، فالحصار المفروض على القطاع وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية واستهداف البنية التحتية كلها جرائم تستدعي محاسبة المسؤولين عنها أمام المحاكم الدولية ومع أن المحكمة الجنائية الدولية تمتلك الولاية القضائية للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، إلا أن غياب الإرادة السياسية لدى بعض القوى الدولية يعرقل إجراءات المساءلة، ما يكرّس سياسة الإفلات من العقاب فالقانون واضح، لكن غيابه عن التنفيذ يعكس ازدواجية المعايير في تطبيق العدالة الدولية”

في ظل هذه الانتهاكات يبقى تفعيل آليات المحاسبة الدولية أمرًا ملحًا سواء من خلال المحكمة الجنائية الدولية أو عبر اللجان الأممية لتقصي الحقائق أو حتى باستخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة المسؤولين أمام محاكم الدول التي تسمح بذلك، فالمساءلة ليست مجرد مطلب حقوقي بل ضرورة لوقف الانتهاكات المستمرة وضمان عدم تكرار هذه الجرائم بحق النازحين والمدنيين الأبرياء.

حيث يعتبر القانون الدولي الإنساني الإطار الأساسي لحماية النازحين والمدنيين في النزاعات المسلحة، ويشمل:

  • اتفاقيات جنيف لعام 1949، وخاصة الاتفاقية الرابعة التي تؤكد على حماية السكان المدنيين في زمن الحرب، وتحظر استهدافهم أو تهجيرهم قسرًا.
  • البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، الذي ينص على حظر الهجمات العشوائية ضد المدنيين (المادة 51) وتجويع السكان كأسلوب حرب (المادة 54).
  • المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تُصنّف الهجمات المتعمدة ضد السكان المدنيين كـ جرائم حرب.

التوصيات 

في ضوء الواقع المأساوي للنازحين في قطاع غزة وما يتعرضون له من انتهاكات تشمل الحرمان من المساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، والمأوى اللائق، إضافةً إلى غياب المحاسبة الدولية، فإن الحلول يجب أن تكون عملية وواقعية لضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية لهؤلاء المتضررين وفي هذا السياق يمكن وضع التوصيات التالية:

أولًا: تحسين أوضاع مخيمات النزوح وفق المعايير الدولية

  • إعادة تنظيم المخيمات بحيث تتوافق مع المعايير الإنسانية من حيث المساحة، التهوية، والنظافة، مع إنشاء بنية تحتية مؤقتة تحسن ظروف الإقامة.
  • زيادة أعداد الخيام وتوزيعها بعدالة لمنع الاكتظاظ مع ضمان جودة المواد المستخدمة لحماية النازحين من الظروف الجوية القاسية.
  • إنشاء مرافق صحية كافية تتناسب مع عدد السكان في المخيمات مع التركيز على النظافة والصيانة الدورية لتجنب تفشي الأمراض.
  • تحسين خدمات المياه والصرف الصحي عبر توفير مصادر مياه نظيفة وصيانة شبكات الصرف الصحي لتجنب الأوبئة.

ثانيًا: ضمان وصول المساعدات الإنسانية بانتظام وعدالة

  • تطبيق آلية شفافة لتوزيع المساعدات تشمل رقابة مستقلة لمنع الاحتكار أو التلاعب بقوائم المستفيدين، وضمان وصولها إلى الفئات الأكثر احتياجًا.
  • تعزيز التنسيق بين المنظمات الإنسانية لضمان استدامة تدفق المساعدات الغذائية والصحية ومنع الانقطاعات المفاجئة.
  • إنشاء خطوط إمداد طارئة بدعم دولي تضمن تدفق المواد الأساسية رغم الأوضاع الأمنية المتقلبة.
  • إشراك المجتمع المحلي في إدارة التوزيع لضمان عدالة التوزيع ومنع أي استغلال أو فساد في العملية.

ثالثًا: تحسين الرعاية الصحية في المخيمات

  • توسيع نطاق العيادات الميدانية وزيادة عدد الفرق الطبية لضمان وصول الرعاية الصحية إلى جميع النازحين.
  • توفير الأدوية الأساسية بشكل دائم خاصةً لمرضى الأمراض المزمنة والتأكد من وجود مخزون طارئ في كل مخيم.
  • تسهيل نقل الحالات الطارئة إلى المستشفيات عبر تخصيص سيارات إسعاف تعمل على مدار الساعة.
  • إطلاق حملات تطعيم ورعاية وقائية لحماية الأطفال وكبار السن من الأمراض المنتشرة في بيئة النزوح.

رابعًا: تعزيز المحاسبة الدولية وإنهاء الإفلات من العقاب

  • تفعيل دور المنظمات الحقوقية الدولية في توثيق الانتهاكات ضد النازحين ورفعها إلى الهيئات الأممية المختصة.
  • اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، خاصةً عرقلة وصول المساعدات واستهداف البنية التحتية.
  • استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية لملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات في الدول التي تسمح بذلك قانونيًا.
  • فرض ضغوط سياسية ودبلوماسية على الجهات المسؤولة لإلزامها بتوفير الحماية للنازحين وضمان وصول المساعدات إليهم.

خامسًا: إيجاد حلول مستدامة لمشكلة النزوح

  • إطلاق خطة دولية لإعادة إعمار المنازل المدمرة بما يضمن عودة النازحين إلى مناطقهم الأصلية في أسرع وقت ممكن.
  • توفير حلول سكنية مؤقتة أفضل مثل وحدات سكنية مسبقة الصنع بدلًا من الخيام التي لا تصلح للعيش لفترات طويلة.
  • دعم النازحين اقتصاديًا عبر توفير فرص عمل ومشاريع صغيرة تساعدهم على تحقيق الاكتفاء الذاتي بدلاً من الاعتماد الكامل على المساعدات.
  • إلزام الجهات المسؤولة بخطة لحماية المدنيين من التهجير القسري في أي نزاعات مستقبلية وفق القانون الدولي الإنساني.

خاتمة

تمثل أزمة النزوح في غزة كارثة إنسانية تستوجب تدخلاً عاجلاً من المجتمع الدولي لضمان حماية النازحين وتخفيف معاناتهم وإن وضع حد لمعاناة النازحين في غزة يتطلب استجابة سريعة وفعالة من المجتمع الدولي مع التزام حقيقي بتطبيق القوانين وضمان عدم تكرار هذه الأزمة في المستقبل هذه التوصيات ليست مجرد مطالب، بل هي حقوق إنسانية يجب احترامها وتنفيذها فورًا لحماية أرواح مئات الآلاف من النازحين الذين يعيشون ويلات الحرب في ظروف غير إنسانية

  محمود راغب عفانة

  محامي نظامي وشرعي وناشط حقوقي مهتم بقضايا القانون الدولي