قراءة ميدانية وحقوقية
يعيش قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه، نتيجة حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة من حيث الحدة والاتساع، أدت إلى موجات نزوح جماعية طالت الغالبية العظمى من السكان. وفي ظل هذا الواقع القاسي، برزت الحاجة الملحة لتوثيق وتحليل اتجاهات النزوح الداخلي والانتهاكات المرتكبة بحق النازحين، لا سيما في ظل غياب الحماية الدولية الفاعلة، وتكرار استهداف أماكن الإيواء والبنية التحتية المدنية.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل رصدي وموثق لحركة النزوح الداخلي والانتهاكات التي تعرض لها النازحون خلال الفترة الممتدة من يناير حتى مارس 2025، بالاستناد إلى البيانات الصادرة عن "المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي"، ومصادر محلية ودولية أخرى. ويسعى التقرير إلى فهم أنماط النزوح، طبيعة الاستهدافات، والاستجابات المحلية والدولية، في سياق قانوني وإنساني، بهدف المساهمة في كشف الحقائق ودعم الجهود الحقوقية والإنسانية المبذولة لحماية المدنيين وإنصاف الضحايا.
تعتمد هذه الورقة على منهج رصدي تحليلي من خلال رصد حركة النزوح والانتهاكات بحق النازحين خلال الفترة من1 يناير حتى 30 مارس 2025 من خلال أدوات متعددة، تشمل: الرصد المباشر والتوثيق الميداني من قبل الباحثين العاملين في المناطق المتأثرة، والاستماع إلى شهادات حية من نازحين وفاعلين محليين، تم جمعها بشكل منظم لدعم المعلومات الميدانية، وبيانات تقارير ومعلومات صادرة عن مؤسسات محلية ودولية تعمل في قطاع غزة، بهدف التحقق من المعطيات وتوسيع قاعدة البيانات.
تستند المؤشرات الرقمية الواردة في هذا التقرير إلى عمليات الرصد المباشر التي يُنفّذها مشروع المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي بشكل شهري، إلى جانب البيانات الصادرة عن الجهات المحلية والدولية العاملة في قطاع غزة. ومن المهم التأكيد على أن هذه الأرقام تقديرية وتميل بطبيعتها إلى الزيادة نظرًا لصعوبة التوثيق الكامل في ظل الأوضاع الميدانية المعقدة، كما أنها أُدرجت لما لها من أهمية في بناء التحليل والوصول إلى نتائج وتوصيات دقيقة.
وتشير التقديرات إلى عودة تدريجية لأكثر من 800,000 نازح إلى شمال قطاع غزة، وذلك بعد سريان وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، وهو ما يُعد تطورًا مهمًا في حركة النزوح العكسي. وعلى الرغم من هذه العودة، استمرت الانتهاكات بحق النازحين، حيث تم توثيق أكثر من 130 حادثة استهداف مباشر ضد العائدين، وفيما يتعلق بالخسائر البشرية، فقد قُدّر عدد القتلى نتيجة الاستهداف المباشر لمراكز الإيواء وخيام النازحين بما لا يقل عن 420 قتيلًا، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال. أما عدد الجرحى فقد تجاوز 950 مصابًا، معظمهم أُصيبوا خلال قصف مواقع يُفترض أنها آمنة للنازحين.
ولم تسلم جهود الإغاثة من العنف، حيث وقعت أكثر من 10 حوادث موثقة استهدفت عناصر تأمين المساعدات الإنسانية. ومن بين أبرز المواقع التي شهدت استهدافًا متكررًا، برز كل من شارعي الرشيد وصلاح الدين، واللذان يُعدّان من أبرز طرق النزوح والتنقل الداخلي، ما شكّل تهديدًا مباشرًا لحركة المدنيين وأمنهم.
أولا، يناير: حركة النزوح من الذروة إلى العودة:
شهد شهر يناير 2025 ذروة غير مسبوقة في حركة النزوح الجماعي، نتيجة لتكثيف الاحتلال الإسرائيلي عمليات الإخلاء القسري باستخدام الإنذارات المباشرة والقصف العشوائي. تم إصدار عشرات الإنذارات التي طالت أحياءً سكنية بأكملها، لا سيما في المناطق الجنوبية، ما أجبر آلاف العائلات على مغادرة مساكنها في ظروف قهرية ودون توفر ممرات آمنة. وازدادت الانتهاكات حدّةً مع استهداف مباشر للنازحين خلال تحركاتهم، وتكرار حوادث قصف مراكز الإيواء، بما فيها مدارس الأونروا ومبانٍ مدنية مأهولة داخل مناطق مصنفة على أنها "آمنة". كما رُصدت عدة حالات لطرد قسري من مراكز الإيواء بالقوة أو عبر التهديد، ما أدى إلى موجات نزوح ثانوي داخل القطاع.
وقد أظهرت التحليلات الميدانية خلال هذا الشهر أن أغلب الاستهدافات طالت بشكل مباشر مواقع كانت معلومة للجهات الدولية بوصفها مراكز إيواء، وهو ما يشكل خرقًا واضحًا لاتفاقيات جنيف ولأحكام القانون الدولي الإنساني. في أربع حالات موثقة، تم استهداف المبنى بشكل مباشر رغم التحذيرات المسبقة حول وجود مدنيين فيه. كما سُجل تركز مكثف لهذه الانتهاكات في محافظتي خان يونس ورفح، ما فاقم من معاناة النازحين، وأدى إلى موجة نزوح داخلية إضافية نحو أماكن أقل أمانًا، دون توفير أي حماية أو ضمانات للمدنيين.
ثانيا، فبراير: موجات العودة في ظل وقف إطلاق النار.
مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، بدأت موجات عودة تدريجية للنازحين إلى مناطقهم الأصلية، رغم الدمار الواسع والمخاطر الأمنية القائمة. سُمح للنازحين بالعودة عبر شارعي الرشيد وصلاح الدين، ما شجع أكثر من 500 ألف نازح على العودة خلال أول أسبوعين من فبراير. ورغم ذلك، برزت ظاهرة إقامة مخيمات جديدة في شمال القطاع نتيجة لتدمير الأحياء السكنية، وفقدان عدد كبير من العائدين لمنازلهم الأصلية. وبالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار، استمر الاحتلال في تنفيذ استهدافات متقطعة، شملت بعض قوافل العائدين ومراكز الإيواء المؤقتة.
تشير الملاحظات الميدانية إلى تحول واضح في نمط الاستهداف خلال شهر فبراير، حيث أصبحت الضربات أكثر دقة وارتُكبت في أوقات الذروة، ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين. كما لوحظ أن بعض الضربات كانت تستهدف محيط مراكز الإيواء لا داخلها مباشرة، في تكتيك يبدو مقصودًا لترهيب النازحين دون إثارة ردود فعل دولية صارخة. عدد من المراكز مثل مدرسة الفاخورة تعرضت للقصف أكثر من مرة خلال الشهر، مما يعكس تجاهلًا صارخًا للاعتبارات الإنسانية في قواعد الاشتباك. ورغم توثيق هذه الانتهاكات، بقيت مواقف الأونروا والمنظمات الدولية محدودة، واقتصرت غالبًا على بيانات شجب دون إجراءات ملموسة لحماية المدنيين أو محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات المتكررة.
ثالثا، مارس: العودة الى النزوح القسري.
شهد شهر مارس 2025 تصعيدًا واسع النطاق في العمليات العسكرية، تمثل في العودة المكثفة للقصف واستهداف النازحين ومراكز الإيواء بشكل مباشر. تزامن ذلك مع إغلاق شامل لجميع المعابر طوال الشهر، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، خصوصًا مع الارتفاع الحاد في أسعار المواد الأساسية وانعدام الإمدادات الغذائية والطبية. كما سُجلت حالات نزوح جماعي جديدة من مناطق رفح وبيت حانون وخزاعة، في مشهد يُعيد إنتاج دوامة النزوح القسري التي لم تتوقف منذ بداية الحرب.
وبتحليل المعطيات الميدانية، يتبين أن شهر مارس مثّل نقطة تحول نحو مزيد من التصعيد الممنهج، حيث كان الاستهداف موجهًا بشكل خاص نحو مدارس الأونروا والمباني المدنية التي تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين. لم تقتصر الأضرار على الخسائر البشرية، بل امتدت لتشمل تدمير البنية التحتية الأساسية للإغاثة، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والمرافق الصحية. أما الإغلاق الكامل للمعابر، فقد شكل أداة إضافية في سياسة الحصار، تعكس استخدام سلاح التجويع كوسيلة حرب، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني ومؤشرات على ممارسات ترقى إلى الإبادة الجماعية.
أولا، الإنذارات الاخلاء القسري لشهر يناير 2025
شهد شهر يناير 2025 تصاعدًا في وتيرة إصدار الإنذارات الرسمية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي استهدفت مناطق واسعة من قطاع غزة، وفرضت على السكان والنازحين تحركات قسرية متكررة. ففي 1 يناير، أصدر الاحتلال إنذارين متزامنين؛ الأول شمل المربعات (2220، 2223) ضمن مخيم البريج، وتضم مناطق بلوك 1، بلوك 2، الجزء الشرقي من بلوك 5، وبلوك 12، حيث طُلب من السكان الإخلاء نحو ما وصفه بـ "المنطقة الإنسانية". أما الثاني فاستهدف مناطق شمال غرب مدينة غزة، وتحديدًا منطقة (D3) في جباليا وبلوكات 763، 762، 761، ودعا إلى الإخلاء الفوري نحو مركز المدينة، وفي 3 يناير حوالي الساعة 12:30 ظهرًا، تكرر إصدار إنذار جديد للسكان في نفس مربعات البريج (2220، 2223) بالإخلاء الفوري نحو "المنطقة الإنسانية". تبع ذلك في 12 يناير إنذار جديد للسكان في بلوك 662 من مخيم النصيرات بإخلاء مماثل، وفي 15 يناير، طال الإنذار منطقة (D5) في جباليا البلد، وطُلب من السكان التوجه إلى مركز المدينة. ومع اقتراب دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، صدر في 18 يناير إنذار تحذيري عام لسكان قطاع غزة من الاقتراب من الحدود الشمالية والشرقية، ومحور فيلادلفيا ونتساريم، مؤكدًا أن التحرك من جنوب القطاع إلى شماله ما زال محظورًا. توالت التحذيرات في 21 يناير، حيث أكد جيش الاحتلال في إنذارين منفصلين خطورة التحرك بين الجنوب والشمال أو الاقتراب من قواته، مع وعود مشروطة بإمكانية العودة بدءًا من الأسبوع التالي في حال سارت ترتيبات وقف إطلاق النار وفق المخطط. كما حذّر المواطنين من دخول البحر أو الاقتراب من المناطق العازلة، مع التأكيد على استمرار منع الصيد والسباحة والغوص في المناطق البحرية، وفي 26 يناير، أعاد جيش الاحتلال التأكيد على التعليمات السابقة التي تمنع العودة إلى شمال القطاع. وفي 27 يناير، صدر إنذار يسمح بعودة السكان إلى شمال قطاع غزة مشيًا على الأقدام عبر شارع الرشيد بدءًا من الساعة 7 صباحًا، وبالمركبات عبر شارع صلاح الدين بدءًا من الساعة 9 صباحًا من نفس اليوم، مع تحذير من أن نقل الأسلحة خلال الانتقال يُعد خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار.
تشير البيانات المتعلقة بإنذارات الإخلاء خلال يناير 2025 إلى توسّع لافت في نطاقها، حيث شملت مناطق مكتظة بالسكان في شمال ووسط قطاع غزة، كالبريج والنصيرات وجباليا، ما أدى إلى موجات نزوح جماعية خلقت فوضى إنسانية حادة.
وقد لوحظ تكرار إصدار الإنذارات للمناطق ذاتها خلال فترات قصيرة، مما زاد من إرهاق السكان وعمّق معاناتهم نتيجة التنقل المتكرر دون وجهة آمنة. كما اتسمت الإنذارات بالغموض، إذ لم تُحدّد مناطق لجوء واضحة، بل استخدمت تعبيرات عامة مثل "المنطقة الإنسانية"، دون توفير أي حماية حقيقية، الأمر الذي أدى إلى نزوح عشوائي وتعريض حياة الكثيرين للخطر.
وازدادت حالة الارتباك نتيجة التناقض الواضح بين التصريحات العسكرية المعلنة والواقع الميداني؛ فعلى الرغم من الإعلانات التي سمحت بالعودة نهاية الشهر، استمرت التحذيرات من الاقتراب من مناطق واسعة، مما خلق شعورًا عامًا بعدم الأمان. إضافة إلى ذلك، تشير أنماط بعض الإنذارات إلى استغلالها كغطاء لشرعنة عمليات الاستهداف عسكري، حيث سبقت بعض الإنذارات ضربات جوية مباشرة على المناطق المدنية المُخلاة.
ثانيا، الإنذارات الاخلاء القسري لشهر فبراير 2025
خلال شهر فبراير 2025، لم يُصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أي إنذارات رسمية بإخلاء المناطق، ويعزى ذلك إلى استمرار سريان اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في 19 يناير 2025. ومع ذلك، ورغم غياب الإنذارات الرسمية، استمرت الانتهاكات الميدانية، بما في ذلك استهداف محيط مراكز الإيواء وعرقلة عودة النازحين، ما يعكس استمرار الاحتلال في فرض قيود غير معلنة على حركة المدنيين داخل القطاع.
ثالثا، الإنذارات الاخلاء القسري لشهر مارس 2025
شهد شهر مارس 2025 تصاعدًا حادًا في إصدار الإنذارات الرسمية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث استهدفت مناطق واسعة في مختلف أنحاء قطاع غزة، مما أدى إلى موجات نزوح متكررة. ففي 18 مارس، صدر إنذار يطالب سكان المناطق الشرقية والشمالية والجنوبية، لا سيما أحياء بيت حانون، خربة خزاعة، عبسان الكبيرة والجديدة، بإخلاء مواقعهم والتوجه نحو غرب خانيونس وغرب مدينة غزة. تبع ذلك في 20 مارس تحذير بمنع التحرك عبر محور صلاح الدين في كلا الاتجاهين، مع السماح بالمرور من الشمال إلى الجنوب عبر شارع الرشيد، إضافة إلى إنذار بإخلاء سكان بني سهيلا نحو غرب خانيونس، وفي 21 مارس، طُلب من سكان مناطق السلاطين والكرامة والعودة الإخلاء نحو جنوب غرب غزة، فيما شهد يوم 23 مارس إنذارًا جديدًا بإخلاء حي تل السلطان غرب رفح نحو مواصي خانيونس. كما صدرت إنذارات تطالب سكان بيت لاهيا وبيت حانون، ثم سكان جباليا، بالإخلاء الفوري نحو غرب غزة، وفي 26 مارس، تم إصدار إنذارات لسكان أحياء الزيتون الغربي والشرقي، وتل الهوا، والشيخ عجلين، والبلدة القديمة، والرمال الجنوبي بالإخلاء نحو جنوب وادي غزة. تواصلت الإنذارات في 29 مارس، حيث طُلب من النازحين في عبسان والقرارة وخربة خزاعة الإخلاء نحو مواصي خانيونس، واختُتم الشهر بإنذار في 31 مارس لسكان رفح، بما في ذلك بلديات النصر والشوكة، والمناطق الشرقية والغربية، وأحياء السلام والمنارة وقيزان النجار، بضرورة الإخلاء إلى ذات الوجهة.
شهد شهر مارس 2025 تصعيدًا غير مسبوق في سياسة الإخلاء الإجباري، مع اتساع رقعة الإنذارات لتشمل مناطق واسعة من شمال قطاع غزة (بيت لاهيا، بيت حانون، جباليا)، ووسطه (الزيتون، تل الهوا، الشيخ عجلين، الرمال)، وجنوبه (رفح، خزاعة، عبسان، القرارة، بني سهيلا)، ما تسبب في نزوح جماعي لعشرات الآلاف من المدنيين.
وقد تميز هذا الشهر بكثافة وتزامن الإنذارات، إذ تم إصدار أكثر من عشرة خلال فترة قصيرة، بعضها في أيام متتالية، مما خلق حالة من الذعر وأربك جهود الاستجابة الإنسانية. كما برزت مظاهر التضارب والتكرار، حيث شملت بعض الأوامر مناطق سبق أن أُخليت، وأخرى وجهت النازحين إلى أماكن كانت قد حُذّروا سابقًا من التوجه إليها، مما يعكس غياب رؤية إنسانية واضحة في إدارة حركة المدنيين. زاد من تعقيد الوضع الغموض المحيط بوجهات الإخلاء، حيث اقتصرت التوجيهات على مناطق عامة كـ “غرب المدينة" أو "مواصي خانيونس" دون تحديد مراكز آمنة أو توفير حماية وخدمات.
وتفاقمت المخاوف إثر رصد ضربات جوية لمناطق تم التحذير من البقاء فيها خلال أقل من 24 ساعة، مما يشير إلى استغلال الإنذارات كغطاء شكلي لاستهداف المدنيين. كما أدّى حظر التنقل عبر شارع صلاح الدين إلى تفاقم أزمة النزوح، خاصة في ظل اعتماد العائلات على شارع الرشيد كمسار بديل محفوف بالمخاطر والقصف المتقطع.
محامٍ وكاتب فلسطيني، هُجرت عائلته إلى قطاع غزة عام 1948 من مدينة يافا، باحث قانوني ضمن فريق المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي.