في السابع من أكتوبر من العام 2023، اشتعل فتيل الصراع في قطاع غزة، وبدأ الاحتلال الإسرائيلي في شن غارات مكثفة على القطاع، طالت تلك الغارات المنازل والشوارع والأعيان المدنية. كانت المنشآت التعليمية إحدى تلك الأعيان التي تعرضت للقصف والتدمير. وفي وقت لاحق من أكتوبر، أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي إنذارات متتالية تحث المواطنين على الانتقال إلى جنوب وادي غزة. أمرٌ دفع الأهالي للانتقال إلى محافظات وسط وجنوب قطاع غزة هربًا من آلة الحرب الإسرائيلية. تكدست محافظات الوسط والجنوب بالنازحين، فيما أصبح الناس يلجؤون إلى المنشآت التعليمية وتحويلها لمراكز لإيواء النازحين.
كان حضور الطلاب في هذه المرة بذات الحقائب، لكنها لم تكن تحمل الكتب، بل كانت مليئة بالثياب والمستلزمات والهموم. أمرٌ سيطول وقعه على الطلاب حتى ينسوا علمهم ومدرستهم، ويذكرون منها فقط صف الإيواء وجمع الحطب.
المنشآت التعليمية بين الدمار والإيواء
يُعرف قطاع غزة بأنه من أكثر المناطق تعليمًا في العالم بالنسبة لعدد السكان، فيما تنتشر المنشآت التعليمية وتعلو نسبة الالتحاق بها بين السكان. فوفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2023، بلغ عدد المدارس في قطاع غزة 796 مدرسة، تتوزع بين المدارس الحكومية ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بالإضافة إلى المدارس الخاصة.
منذ بدء حرب الإبادة، انتهج الاحتلال الإسرائيلي سياسة التدمير، فلم يستثنِ الجامعات والمدارس من الاستهدافات المباشرة. تعرضت حوالي 88% من مدارس القطاع للقصف المباشر، ودُمّرت 61% منها كليًا أو أصيبت بأضرار جسيمة، في حين تحوّلت معظم المنشآت التعليمية المتبقية إلى مراكز إيواء للنازحين، لتصبح غير صالحة للعملية التعليمية. هذا الدمار الواسع أدى إلى تعطيل المسيرة الدراسية لأكثر من 625 ألف طالب فلسطيني، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بذلك، بل حوّلت قواته البرية أثناء العمليات البرية المتتابعة بعض المدارس التي لم تُدمّر بشكل كامل إلى مناطق عسكرية ونقاط اشتباك. غير أن طيران الاحتلال الإسرائيلي ارتكب المجازر بحق عدد من تلك المدارس والجامعات ورياض الأطفال التي تؤوي آلاف النازحين. إضافة إلى جرائم استخدام المدارس والجامعات لأغراض عسكرية، واستغلالها كمراكز احتجاز واستجواب. كما ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجازر إعدام لأعداد من المدنيين النازحين على مرأى أهاليهم داخل هذه المدارس، كما تحولت بعض الباحات المدرسية إلى مقابر جماعية.
واقع التعليم في مراكز الإيواء
في بداية العام الدراسي، كان يُفترض بأكثر من 600 ألف طالب مدرسي أن يلتحقوا بالعام الدراسي في قطاع غزة، منهم حوالي 60 ألفًا من طلبة المرحلة الثانوية، إضافة إلى 87 ألف طالب جامعة وكلية. لكنهم حرموا من العام الدراسي. تعطلت المسيرة التعليمية منذ السابع من أكتوبر 2023، وتحوّل الطلبة بالإضافة إلى الكوادر التعليمية إلى نازحين في مراكز الإيواء، يعملون على جمع الخشب والنايلون ويبحثون عن مياه الشرب. يقفون في طوابير الخبز والتكايا، يصارعون من أجل البقاء، إضافةً إلى تكرار عمليات النزوح من مكان إلى آخر، وتعرضهم لاستهدافات مباشرة في مراكز الإيواء.
ووفقًا لوزارة التربية والتعليم، قتل أكثر من 400 معلم ومعلمة، وأكثر من 450 أكاديميًا وإداريًا، وأصيب 2,703 من الكوادر التعليمية. أما الطلبة فلم يكونوا بحالٍ أفضل، فقد قتل أكثر من 12,000 طالب وطالبة، وأصيب حوالي 25,000 آخرين بإصابات بالغة بينها بتر أحد الأطراف أو كليهما.
أحمد أبو شمالة، طالبٌ نازحٌ من منطقة الكرامة شمال قطاع غزة، يقول: "نزحت مع عائلتي مشيًا على الأقدام عبر الممر الآمن وصولًا إلى مركز إيواء مدرسة رفيدة في دير البلح وسط القطاع، ومنذ تلك اللحظة لم أمسك كتابًا، ولم أقرأ حرفًا واحدًا، فكان الأهم من التعليم أن أحصل على الماء والطعام".
ويكمل أبو شمالة: "كنا نفتقر لكل مقومات الحياة، لجأنا للبحث عن الكتب والأوراق والنايلون من أجل الطهي على النار والتدفئة، خصوصًا أننا خرجنا من بيوتنا بملابس صيفية، ليست لدينا أغطية ولا ملابس، كما استخدمنا كل مقتنيات المدرسة: الكراسي والطاولات".
يؤكد ضاحكًا: "جُردت المدارس من الخشب". ويضيف: "بعد أشهر قليلة، استهدف الاحتلال المدرسة التي نلجأ إليها، ولم تكن المرة الأخيرة. فقد استهدفها الاحتلال تواليًا أكثر من خمس مرات وقتل الكثير من أصدقائي. لم ينفك عن رأسي سؤال: هل سأنجو؟". حرمت من الدراسة، وعن غيابه عن التعليم في الحرب، يضيف أحمد: "لم يكن ليذهب للمدرسة خلال الحرب للحصول على دروس تعليمية وهو جائع وخائف ونازح".
وبعد أحد عشر شهرًا من الانقطاع عن التعليم، لجأ العديد من المعلمين والمعلمات إلى إنشاء خيام تعليمية فردية، تهدف إلى دمج الأطفال تدريجيًا وإعادتهم لنشاطهم العقلي، ومحاولة التخفيف من الضغوط النفسية التي عانوها نتيجة ما عاشوه في الحرب. وفي مخيم للنازحين على شاطئ البحر في جنوب قطاع غزة، افتتحت الشابة نور جابر، معلمة في إحدى رياض الأطفال، خيمتها التعليمية، ويحيطها عدد من الأطفال الذين يحضرون إلى الدرس بثيابٍ بالية وأقدامٍ حافية.
تقول نور: "بعد غياب الأطفال لأكثر من عام عن مقاعدهم الدراسية، قررت بجهد ذاتي تحويل خيمة النزوح إلى مركز تعليمي بأبسط الإمكانيات والمقومات التي هي شبه معدومة"، لافتة إلى أن البداية كانت مقتصرة على أبناء العائلة وتعليمهم الحروف والأرقام، وتوسعت للجيران وانتشرت المبادرة لتشمل أكثر من 300 طالبًا.
تضيف: "نعاني من ارتفاع درجة الحرارة، وضيق المكان مما يدفعني إلى استقبال الطلاب على أكثر من فترة. الخيمة لا تشكل جوًا مناسبًا، لكنها محاولات منّا للبقاء".
تؤكد: "نقوم بتدريس المواد الأساسية، إضافةً إلى معالجة القيم والسلوكيات والآثار النفسية من خلال التفريغ في الرسم واللعب. وحتى على صعيد الترفيه، لم يكن هناك تجاوب ملحوظ من قِبل الأطفال فهم يعانون من اضطرابات نفسية حادة". وتضيف: "عندما يسمع الأطفال زامور عربة الماء، يتركون الخيمة ويركضون لحمل الجالونات وحجز دورًا في الطوابير".
تؤيد الأم لينا عصفور: "أرسلت أطفالي إلى مدرسة أنشئت بمبادرة تعليمية، آملاً ألا ينسوا الكتابة والقراءة، لكن لم ألحظ أي تغيير في مستواهم التعليمي. لكني لاحظت شيئًا من التفريغ النفسي". وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO): "أن 60% من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية ناتجة عن الصدمة والتشريد".
ومن جهة أخرى، تجلس سلوى ماضي، والدة الطفل عبد الله، طالب في الصف الأول، داخل خيمتها المصنوعة من النايلون والخشب، تردد الأحرف الأبجدية والسور القرآنية القصيرة. تقول سلوى: "يذهب طفلي إلى الخيمة التعليمية لأنها لا تكفي وحدها، ولربما أنها لا تؤدي الغرض بالمطلق. لذلك لجأت للتعليم الذاتي. أقوم بتدريس طفلي اللغة العربية وعمليات الجمع والطرح". وتشرح: "نعاني من ارتفاع أسعار الدفاتر والمستلزمات الدراسية، علاوة على ندرة المطبوعات والكراسات الملونة والكتب المدرسية، إضافة إلى ضعف الإنترنت".
أماني نصر كان لها هَمًّا آخر غير أسعار المطبوعات والدفاتر، تعرب أماني عن خوفها الشديد: "أخشى على أطفالي من الذهاب إلى الخيمة التعليمية خشية من استهدافات مباشرة للخيام المجاورة أو أماكن أخرى في طريقهم. كما أن مثل هذه المبادرات لا تضيف للطفل أي منحى تعليمي حقيقي، ليس إلا ساعة من اللعب. لذلك لجأت للتعليم الذاتي، رغم صعوبة التعليم، وعدم تقبل أطفالي أن أكون أمهم ومعلمتهم".
على جانب آخر، بعض الأمهات تطرح المخاوف جانبًا وتبحث عن الأمل، فهذه أم الطالبة ماريا نور الدين، تقول: "المبادرات التعليمية تمنحنا شيئًا من الأمل وسط الظلام الذي حل بنا، لكنها لا تغني عن التعليم الرسمي، ولا يمكن الاعتماد عليها كمصدر رئيسي. بل هي محاكاة للعملية التعليمية، والحل يتمثل بوقف الحرب وإعادة الطلاب إلى المدارس، حتى لو كانت عبارة عن خيام أو فوق ركام مدارسهم".
العودة إلى التعليم، ما بين التعليم الوجاهي والإلكتروني
بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز النفاذ، بدأ النازحون بالعودة إلى أماكن سكنهم الأصلية، وبدأت عملية إفراغ المنشآت التعليمية من النازحين. فيما عكفت عدد من المدارس والجامعات على الإعلان عن استئناف الدراسة فيها. بالتزامن مع ذلك، أعلنت وزارة التربية والتعليم في فبراير 2025 عن انطلاق العام الدراسي الجديد 2024-2025، ضمن خطط تعليمية تساهم في تعويض الفاقد التعليمي الناتج عن تعطل العملية التعليمية لأكثر من 15 شهرًا. وكانت باكورة العودة إلى مدارس النصيرات وسط القطاع كونها الأقل تضررًا خلال حرب الإبادة.
"فإن حوالي 88% من مدارس القطاع تعرضت للقصف المباشر، ودُمّرت 61% منها كليًا أو أصيبت بأضرار جسيمة. وأن هذا الدمار الحاصل في القطاع التعليمي أدى إلى تعطيل المسيرة الدراسية لأكثر من 625 ألف طالب فلسطيني"، وذلك بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
عاد مئات الطلبة إلى المدارس المتضررة أو الخيام التعليمية أو الفصول الافتراضية بعدما لجأت الوزارة إلى إنشاء "الخيام التعليمية" في محاولات لتوفير بيئة مناسبة للطلاب الذين فقدوا مدارسهم. وتقتصر الخطة على تدريس المواد الأساسية (اللغة العربية، الإنجليزية، الرياضيات) نظرًا لنقص المعلمين والموارد التعليمية.
تقول الطالبة حنين مطر، طالبة في الثانوية العامة: "أعتقد أن لا جدوى من هذه الخطط، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع سوى الترفيع الآلي للطلاب".
كما طرحت الوزارة خطة "دمج العامين الدراسيين 2023-2024 و2024-2025" في عام دراسي واحد مكثف، مع تقليص المناهج إلى وحدات دراسية تركز على المهارات الأساسية. أما عن خطة "الفصول الافتراضية"، أعلنت عنها الوزارة في 23 فبراير 2025، التي تساعد في استكمال المسيرة التعليمية للطلبة الذين يصعب عليهم الحضور الوجاهي للخيام التعليمية، وذلك من خلال منصات التعليم الإلكتروني: Teams وWISE School.
تقول الأم نور عبد العال، باستياء: "الفصول الافتراضية، خطة غير ناجحة إلى حدٍ ما، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها ضعف الإنترنت وعدم وجود أجهزة لوحية أو هواتف نقالة. إضافةً إلى أن شحن تلك الأجهزة حال توفرت يكلف مبالغ مالية عالية خصوصًا في فصل الشتاء، وذلك لأنها تعتمد بشكل كلي على الطاقة الشمسية".
ويؤيد الأب خالد شقورة واقع فشل "التعليم الإلكتروني"، قائلًا: "ليس لدي القدرة على شراء جهاز لوحي لأطفالي أو حتى هاتف نقال بعد أن تعطلت هواتفنا خلال الحرب، كما أن نواجه صعوبات كبيرة في توفير الإنترنت والكهرباء؛ إن وجدت". ويضيف شقورة: "لا تقتصر إبادة القطاع التعليمي على تدمير البنية التحتية للقطاع، بل أيضًا تستهدف العقول البشرية. فمثلاً، خطة الفصول الافتراضية، خطة غير مجدية؛ ليس من الصعب أن يقوم شخص آخر غير الطالب بتقديم الاختبارات والواجبات المطلوبة... هذا الأمر يجعلني قلقًا أكثر بشأن المصير المجهول لأطفالي".
المصير مجهول
بعد أقل من شهر من العودة إلى الدراسة بجهود حثيثة من وزارة التربية والتعليم لضمان استمرار المسيرة التعليمية، استأنف الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على قطاع غزة في 18 مارس من العام 2025، وأُعلن مجددًا عن وقف التعليم إلى إشعار آخر، وعودة الفلسطينيين إلى النزوح واللجوء إلى المدارس. وهذا ما يؤكد "أن أطفال غزة قد يخسرون ما يعادل خمس سنوات تعليمية"، بحسب منظمة اليونيسف. وهذا يعني تهديد مستقبل أجيال كاملة. فبينما يسعى الطلاب والمعلمون إلى تجاوز هذه الظروف القاسية، تبقى التساؤلات حول كيفية بناء مستقبل تعليمي مستدام وسط أجواء الحرب والدمار، وماذا سيحمل المستقبل للجيل الذي نشأ وسط تلك التحديات الصعبة والمصير المجهول؟
صحافية مستقلة من قطاع غزة